كان أول دستور أعلن عنه من قبل النخبة السياسية الإصلاحية في المغرب؛ هو دستور الحاج علي زنيبر السلاوي الذي سماه: “حفظ الاستقلال ولفظ سيطرة الاحتلال”، وقد اقترحه بعد عودته من مصر إلى المغرب سنة 1904م؛ وتضمن 31 فصلا؛ شرح فيها مقترحاته للإصلاح السياسي ولإرساء النظام الدستوري الحديث؛ والتي كان من أهمها صيانة المغرب من الاحتلال الذي يحيط به.
كما تعتبر مذكرة عبد الكريم مراد المقدمة سنة 1906م مشروعا دستوريا مهما؛ ركز على إصلاح نظام الحكم والإدارة والقضاء والأمور العسكرية والمالية؛ والاهتمام بالأمور الاجتماعية؛ فقد ركز في مقدمته على تشكيل مجلس الأمة للنظر في كل المسائل التي تهم الرعية والأجانب؛ ليطمئن أولئك وهؤلاء كما هو الحال في جميع الدول الأوربية؛ مع اعتماد الشريعة الإسلامية كأساس وأصل للقوانين؛ لأن القوانين في الدول الأوربية مبنية على موافقة العقل لأحوال البلاد ومصالحها..
ثم كانت سنة 1908م البيعة الحفيظية التي اعتبرها الكثيرون مدخلا جوهريا إلى مشروع الدسترة في المغرب؛ وقد تجلت ملامح الدسترة في البيعة الحفيظية في الشروط التي اشترطها المبايعون على السلطان عبد الحفيظ؛ والتي كان أهمها:
– استرجاع الجهات المحتلة في الحدود.
– عدم تنفيذ شروط ميثاق الجزيرة المضرة بمصالح المغرب والمغاربة.
– إلغاء امتيازات الأجانب مثل الحماية القنصلية.
– التحالف مع الدول الإسلامية مثل تركيا ومصر.
– إلغاء المكوس.
– تحقيق العدل ونشر العلم والاهتمام بالمؤسسات الدينية.
– فصل السلطة التنفيذية عن السلطة الشرعية.
– الاهتمام بالعلماء والأشراف وإبعاد الفاسدين عن الإدارة.
(انظر كتاب المغرب من عهد الحسن الأول إلى عهد الحسن الثاني 1/327).
ثم كانت محاولة وضع أول دستور مغربي بعد الاستقلال سنة 1960م؛ وفي هذا السياق عين الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله بظهير شريف صدر في (13 جمادى الأولى عام 1380هـ الموافق 3 نونبر 1960) مجلسا لإعداد الدستور يتصدر أعضاءه العلماء؛ من أمثال المختار السوسي والفاروقي الرحالي ومحمد داوود وعبد الله كنون..؛ وغيرهم.
لكن توفي الملك محمد الخامس دون أن يحقق أمنيته وهي إقرار دستور للمملكة، وتولى الأمر من بعده خلفه الملك الحسن الثاني الذي كان أمامه ثلاثة اختيارات:
– مجلس تأسيسي منتخب كما تطالب به فئة من النخب السياسية والفكرية.
– تأسيس لجنة لوضع الدستور تضم خبراء وذوي الاختصاص والتجربة السياسية.
– اللجوء إلى ما يتمتع به الملك من سلطة تشريعية وتنفيذية، فيضع الملك الدستور بنفسه أو بواسطة حكومته مستعينا بالخبراء الذين يرغب الملك في الاستعانة بهم.
وقد فضل الحسن الثاني الاختيار الأخير..
وحول هذا الاختيار يقول علال الفاسي: “أسس الملك لجنة خاصة كان وزراء من حزب الاستقلال من بين أعضائها، على أنها اللجنة التأسيسية التي يرأسها بنفسه؛ وقدم لها مشروع الدستور التي تدارسته معه، وأبدت رأيها في كل بند من بنوده حتى تم على الصيغة التي عرض عليها على الشعب في ديسمبر 1962م للاستفتاء”اهـ.
وهكذا أقر المغرب دستوره الأول عام 1962 وقام بتعديله في السنوات 1970 و1972 و1980 و1992 و1996 إلى دستور يوليوز 2011م؛ الذي جاء نتيجة استجابة الملك محمد السادس للحراك الشعبي الواسع الذي عرفه المغرب شأنه في ذلك شأن باقي الدول العربية الأخرى. (انظر كتاب نظام الحكم في الإسلام والمسألة الدستورية في المغرب؛ للأستاذين عادل رفوش وحماد القباج).
وإذا كان مشروع الدستور الجديد الذي تقدمت به اللجنة إلى الملك؛ قد قوبل بالرفض القاطع من جماعة العدل والإحسان وأحزاب الطليعة والاشتراكي الموحد والأمة الذين يشكلون قطاعا واسعا من حركة 20 فبراير؛ باعتباره دستورا ممنوحا يكرس الهيمنة والاستبداد والتحكم الفردي؛ ولا يستجيب لإرادة الشعب؛ ولمطلب الملكية البرلمانية، فقد لاقى بالمقابل هذا الدستور القبول من العديد من الأحزاب السياسية والجمعيات المدنية والحركات الإسلامية.
وشكك مراقبون في الإرادة الصادقة للدولة في الإصلاح في ظل اسمرار بعض رموز الفساد في مناصبهم؛ وتحكمهم في دواليب الاقتصاد والسياسة؛ وإغفال ملفات كبرى عالقة؛ كملفات حقوقية تتعلق بمعتقلي الرأي وإغلاق أكثر من 67 جمعية وطنية فاعلة ودور القرآن الكريم التابعة لها دون أي سند قانوني.
ودفعت بعض التصرفات التي انتهجتها أجهزة الدولة إبان حملة الاستفتاء على الدستور الجديد؛ كاستغلال المساجد -التي لطالما عمل أحمد التوفيق من خلاله كلامه ومواقفه على إبعادها عن المجال السياسي- في حملة الاستفتاء؛ وتجييش أتباع الطريق القادرية البودشيشية التي يتزعمها حمزة بن العباس وينتمي إليها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية؛ للقيام بمسيرة في الدار البيضاء أعربت من خلالها عن التصويت بنعم للدستور الجديد؛ واستمرار تدخل وزارة الداخلية ونهج الأساليب القديمة لدفع الناس إلى التصويت بنعم؛ كلها تصرفات دفعت العديد من المتتبعين للشأن السياسي الوطني إلى التصريح باستمرار السياسة القديمة وغياب الرغبة الصادقة في الإصلاح.
وتبقى مطالب السواد الأعظم للمغاربة تنحصر في إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والحقوقية الملحة التي تعبر عنها فئات واسعة من الشعب المغربي خاصة في العالم القروي، ومحاربة اقتصاد الريع واستغلال خيرات البلاد وتمركزها في فئة قليلة من الشعب المغربي دون موجب حق.
فمرحلة ما بعد الاستفتاء على الدستور الجديد تعتبر مرحلة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث؛ الذي أكد على تمسكه بالهوية الإسلامية؛ وقطعه مع ممارسات الماضي؛ وعمله على تحقيق العدل والإنصاف وتكافؤ الفرص بين أبناء الشعب الواحد.
(ن.غ)