سلسلة التوحيد عند الصوفية: فتح العلي بتوضيح معنى الوليّ (الحلقة السادسة) الولي والعصمة عند أهل السنة : أبومحمد عادل خزرون التطواني

لقد أشكل على البعض لفظ العصمة الوارد في القرآن الكريم فظنوا أن المراد منه العصمة التي بمعنى الكمال المطلق والتنزيه الكلي عن اقتراف الذنوب والخطايا، وذلك كما في قوله تعالى: )وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ((1 )، غير أن معنى العصمة في هذه الآية ليس من مجرد الخطأ وإنما المقصود أن يعصمه الله من أذى الناس في تبليغ ما أنزل إليه، فإن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم حفظ للشريعة. كما صرح بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: (ولفظ العصمة في القرآن جاء في قوله: )وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ( أي من أذاهم، فمعنى هذا اللفظ في القرآن: هو الذي يحفظه الله عن الكذب خطأ وعمدا.. وقد يكون معصوما على لغة القرآن، بمعنى أن الله عصمه من الشياطين: شياطين الإنس والجن، أن يغيروا ما بعث به أو يمنعوه عن تبليغه، فلا يكتم ولا يكذب كما قال تعالى: )عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(( 2) )لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا( فهو يسلك الوحي من بين يدي الرسول ومن خلفه، وهذا في معنى عصمته من الناس، فهو المؤيد المعصوم بما يحفظه الله من الإنس والجن حتى يبلغ رسالات ربه كما أمر)(3 ).

ولا يشترط للولي العصمة فإنه من بني آدم. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون»(4 )
والمتأمل في المتصوفة خاصة وأهل البدع عامة يجدهم يعتقدون العصمة في مشايخهم وأئمتهم كما اعتقدها اليهود والنصارى في أحبارهم ورهبانهم حتى اتخذوهم أربابا من دون الله )اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(.
وأهل البدع وإن لم يصرحوا بها بلسان مقالهم فإنها واضحة بلسان حالهم، والواقع أكبر شاهد على ذلك. فالأولياء مهما بلغوا من صلاح الحال ومن التقرب إلى الله، فإنهم بشر ليسوا معصومين وإنما مستعصمين بكتاب الله وسنة رسوله. فالكل يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم. وأعظم ما يعتصم به المرء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال الزهري: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة، وقال مالك: السنة سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)(5).
والمقرر عند أهل السنة من أصول الاعتقاد: أنه لا أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب والخطايا( 6) كما أنه: (ليس من شروط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ؛ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين)(7 ).

هل ولي الأمر معصوم
وقد قال بهذا القول وأغرب الرازي كما في تفسيره الكبير، فقرر العصمة لأولي الأمر بناء على قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ(( 8) ثم قال: (أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك والخطأ، والخطأ لكونه خطأ: منهي عنه، فهذا يقضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الواحد بالاعتبار الواحد وأنه محال.. فثبت قطعا أن ولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما)(9 )اهـ.
ولا شك أن السلف الصالح لم يفهموا من الآية ما فهمه الرازي رحمه الله، فإنه لما تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد فإني، قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»… إلى أن قال: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم»( 10).
وقال ابن تيمية مجيبا عن هذه الآية: (وقد قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(، قال:(فلم يقل [وأطيعوا أولي الأمر] ليبين أن طاعتهم فيما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أيضا، إذ اندراج طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في طاعة الله أمر معلوم. فلم يكن تكرير لفظ الطاعة فيه مؤذنا بالفرق، بخلاف ما لو قيل [أطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر] منكم، فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله).
وأضاف: (فمن أوجب طاعة أحد غير رسول الله في كل ما يا أمر به، وأوجب تصديقه في كل ما يأمر به ويخبر به، وأثبت عصمته أو حفظه( 11) في كل ما يأمر به ويخبر من الدين، فقد جعل فيه المكافئ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمضاهاة له في خصائص الرسالة( 12).
ثم استشهد بقصة الذي جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على سرية فغضب منهم وأمرهم أن يجمعوا حطبا ويلقوا بأنفسهم فيها، فكادوا أن يفعلوا فقال بعضهم لبعض: إنما تبعنا رسول الله فرارا من النار أفندخلها؟ فبينما هم كذلك إذ خمدت النار وسكن غضب الأمير، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف»( 13) واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»(14) وكذلك قوله:«على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»( 15).

مسألة: الولي الذي ارتد
وقد وقع النزاع بين طوائف هذه الأمة في مسألة الولي الذي ارتد:
*فالولي إذا قام به الإيمان والتقوى زمنا ثم ارتد هل كان زمن إيمانه مؤمنا ووليا حقا أم كان باطلا بمنزلة من كان صائما وأفطر قبل الغروب؟
*وهل كان الله يحبه ويرضى عنه زمن ولايته وإيمانه ثم أبغضه وسخط عليه حين ارتد أم كان ساخطا عليه زمن ولايته وإيمانه لعلمه بأنه سيكون مرتدا؟
يصف ابن تيمية من قام به الإيمان والتقوى ومات على ذلك بـ (الولي المطلق). قال: (ولا نزاع في هذا النوع).
ثم إن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة في ذلك فقد تقوم به الولاية زمنا ثم تتغير عاقبته فيكون وليا حقيقة ثم يرتد.
أما أكثر أهل السنة والحديث من أصحاب أحمد وأصحاب مالك والشافعي وكذلك المتكلمين كالأشعري والشيعة فإنهم يشترطون سلامة العاقبة، وإلا لم يكن وليا حقيقة زمن ولايته.
أجاب قائلا: (والتحقيق هو الجمع بين القولين، فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير. فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلق به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلا وأبدا. وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلا وأبدا، لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته وقد يقال: أنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك وهو سبحانه وتعالى يأمر بما يفعله الثاني من الإيمان والتقوى، ويحب ما يأمر به ويرضاه. وقد يقال: أنه يواليه حينئذ على ذلك)( 16).
أضاف: (والدليل على ذلك: اتفاق الأمة على أن من كان مؤمنا ثم ارتد فإنه لا يحكم بأن إيمانه الأول كان فاسدا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال. وإنما يقال كما قال تعالى: )وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ((17) )لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ((18 ) )وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ((19).
قال: (ولو كان فاسدا في نفسه لوجب الحكم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه، وبطلان إرثه المتقدم، وبطلان عباداته جميعها فلو حج عن غيره كان حجه باطلا. ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان عليهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه. ولو شهد -أو حكم- ثم ارتد لوجب أن تفسد شهادته وحكمه.
كذلك أيضا الكافر إذا تاب من كفره: لو كان محبوبا لله وليا له في حال كفره لوجب أن يقضي بعدم أحكام ذلك الكفر. ثم انتهى إلى أن (هذا كله خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع)(20 ).
وللبحث بقية بحول الله وتوفيقه..

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1 ) المائدة:67.
(2 ) الجن:26.
( 3) النبوات:221- 222.
(4 ) رواه الترمذي 2501 والدارمي 2/303 وأحمد 3/198 بسند حسن.
(5 ) الصفدية 1/259 .
(6 ) جامع الرسائل 1/266 ومختصر الفتاوى المصرية 100.
(7 ) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 48-49.
( 8) النساء:59.
( 9) التفسير الكبير للرازي 10/144.
( 10) البداية والنهاية 5/248.
(11 ) الحفظ عند الصوفية هو العصمة لكنه مختلف عنها لفظا فقط.
(12 ) جامع الرسائل 1/273.
(13 ) أخرجه البخاري في المغازي باب سرية عبد الله بن حذافة، وفي الأحكام باب السمع والطاعة ومسلم 1840 وأبو داود 2625 والنسائي في البيعة 7/159 والطيالسي 1568 وأحمد 1/82.
(14 ) رواه أحمد 5/66 والطيالسي رقم 109و850 وإسناده ضعيف غير أن له شواهد كما عند الحاكم 3/443، وصححه ووافقه الذهبي وشواهد أخرى تحسنه (السلسلة الصحيحة رقم 181).
( 15) أخرجه البخاري في الأحكام باب السمع والطاعة ومسلم في الأمارة 1839 والترمذي 1707 وأبو داود 2626 والنسائي 7/16 وأبن ماجة 2864.
(16 ) دقائق التفسير 3/220-221.
( 17) المائدة:5.
(18 ) الزمر:65.
(19 ) الأنعام 58.
( 20) نفس المصدر السابق 2213.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *