واعظة (الحركة النسائية)! بقلم: حمّاد القبّاج

عهدي بالحركة النسائية العلمانية أنها ترفض وعظ الدعاة، ولا تقبل تقريرات علماء الشريعة، بل إنها تَعُدّ كلامهم خطابا استهلاكيا ينبع من أعماق بئر الماضوية، ويغترف من قعر مِرجل الفكر المتزمت، الذي يريد حاملوه فرضه على الناس باسم التدين والإيمان بالله واليوم الآخر!
كما تَعد ذلك الخطاب ضغطا نفسيا ينزل بثقله وحمولته التخويفية على المخاطَبين؛ فيؤثر على ضعاف النفوس، وقليلي المعرفة!
ولا أريد في مقالي هذا أن أناقشها في هذه القناعة الخاطئة، كما أنني لا أريد أن أكشف عوارَ تلك القناعة، وبُعدها عن الصواب..
لكنني سأفسح المجال -بدلا من ذلك- لواعظة تنتمي إلى طرف يُعَد مرجعا معتمدا عند هذا الصنف من الناس، حيث يقبلون خطابه، لأنهم يرونه نابعا من فضاء الحداثة الفسيح، ويعتقدون أنه يستمد عناصره من الفكر المتحرر المتنور..
هذه الواعظة هي امرأة ألمانية ناجحة بالمعيار الغربي؛ فهي مذيعة متميزة بالقناة الأولى في بلدها، لها شهرة واسعة، وسيط ذائع، اسمها: (إيفا هيرمان).
صدر لها مؤخرا كتاب بعنوان: {مبدأ حواء}؛ هاجمت فيه الحركة النسوية المعاصرة، وعدّت مبادئها -وعلى رأسها المساواة المطلقة- أكذوبة كبيرة سلبت النساء أنوثتهن.
ودعت المؤلفةُ النساءَ إلى الفخر بمهمتهن كأمهات وربات منازل، وأشارت إلى استحالة امتهان المرأة وظيفة، وقيامها في الوقت نفسه بتربية أطفالها بشكل صحيح.
وقد بلغت مبيعات الكتاب (مائة وخمسين ألف) نسخة في وقت قياسي، وأكثر المُشْترِيات نسوة؛ مما يَدُلّ على حنين الغربيات لهذا النداء الذي ينبع من أعماق الفطرة، ويخترق جدار فكرة التحرر والمساواة غير المنضبطين، التي انطلت على الجماهير لاستغلالها دافع الهوى، وتَزَيِّيها بلبوس التقدم والتنور.
وفي لقاء أجراه معها أحد المواقع على الشبكة العنكبوتية (الأنترنت)؛ صرحت بما يلي:
“هدفي من تأليف الكتاب تنبيه المواطنين وإيقاظ مشاعرهم إلى أن إنجاب الأطفال يعتبر أمنية مفضلة لذاتها وشيئا محببا، ليس لإنقاذ المجتمع الآخذ في الشيخوخة أو لأسباب نفعية وحسابات عملية مجردة، وإنما لأن الأطفال كائنات لطيفة وجميلة، ومصدر سعادتنا وإثراء حياتنا.
كما أردت أيضا أن أوصل للنساء الألمانيات رسالة مفادها أن من تُفكر في تأجيل الإنجاب إلى مرحلة عمرية متأخرة من حياتها، لحين الانتهاء من تحقيق تقدم ونجاح وظيفي، فإنها ربما تكون قد ضيعت فرصتها الطبيعية في الإنجاب وتكوين أسرة..”.
“..وأنا الآن أريد أن أحفز النساء والأسر في ألمانيا على الاهتمام بوضع خطط حياتية، وأن ينجبوا الأطفال في سن مبكرة وعدم تأجيل هذا أو تسويفه إلى أن يحققن نجاحهن الوظيفي بمرحلة متأخرة لا يعلمن متى ستأتي، وأتمنى أن أشجع بكتابي الشابات الصغيرات على تبني خيار الأسرة والأمومة على ما عداه من الخيارات.
وخلال إحدى الندوات التي أقيمت لمناقشة كتابي سمعت شابة ألمانية لا تتعدى السادسة عشر عاما، أبوها كاتب وممثل مشهور، تقول: إن الزواج وتكوين الأسرة وإنجاب ثلاثة أطفال، هو هدفها في الحياة، وهو أيضا نفس هدف صديقاتها، وقد أسعدني سماع هذا الكلام وأعتقد أن هذه الشابة وصديقاتها هن مثال يعبر عن تيار من النساء موجود في مجتمعنا..”.
“.. لقد أصدرت هذا الكتاب الآن لأن أفكاري التي طرحتها فيه أصبحت ناضجة فقط في المرحلة الحالية من عمري، وقبل عشرين عاما لم تكن لدي مثل هذه الأفكار، ووقتها كانت الرغبة في إنجاب الأطفال موجودة عندي لكنها كانت فكرة مؤجلة، لأن أهدافي المستقبلية كانت تنحصر آنذاك فقط في التركيز على المجد والنجاح الوظيفي من خلال عملي كمذيعة في التلفاز.
ولحسن الحظ فقد أنجبت طفلا لكن في سن متأخرة، وليس بمقدوري إعادة عقارب الساعة إلى الوراء مرة أخرى، ولو كان هذا ممكنا فأنا متأكدة أنني كنت سأختار لحياتي ولأسرتي شيئا مختلفا عما اخترته في السابق..”.

انتهت الموعظة..!
وكأني بمعاندةٍ من العلمانيات تنبعث لتمنع تأثر أخواتها بهذه الموعظة البليغة؛ قائلة: (لا تلتفتن لهذا الكلام؛ فهو صوت ناشز خرَقَ الإجماع، ولا يعبر إلا عن قناعة فردية لهذه السيدة، التي لا يبعد أن تكون تأثرت ببعض الخطابات الدينية المتزمتة)!
فأقول لها مهلا:
إن دعوة هذه المرأة ليست بِدْعا من الدعوات، ولا تعد صوتا فرديا شاذا؛ فقد ظهرت في الغرب منذ عقود، منظماتٌ نسائية ترفض دعوة التحرر والمساواة تلك، ويرَين فيها بخساً لحقوقهن وتطاولا على أنوثتهن؛ كمنظمة “النساء التي يردن أن يكن نساء”.
ومنظمة “سعادة الأنوثة”.
ومنظمة”النساء المعارضات للمساواة”..وغيرها.
وأعلنت هذه المنظمات أهدافها المعارضةَ للمساواة بين الجنسين، والمتمسكةَ بالأسرة كمؤسسة رئيسية في المجتمع، ذات أهمية بالغة في الحياة الإنسانية.
ومن أبرز وأقدم زعماء هذا التوجه؛ أستاذة علم النفس (دورين كيمورا) باحثة في الأسس العصبية والهرمونية، وقد منحتها سنة (1929) مؤسسة “أنتاريوا” للصحة العقلية جائزة (جون ديوي) للبحث العلمي المتميز . (1)
وفازت المنظمات المذكورة بزعيمة قوية ذات مهارات وكفاءات علمية فائقة في عام (1972)، وهي من زعيمات الجناح اليميني؛ اسمها: (فيلس شلانيلي)، وقد أسست هذه المرأة منظمة “أوقفوا قانون حق المساواة”، وبدأت وابلا لا ينقطع من النقد للحركة النسائية المعادية للأسرة والأمومة، والمحاربة لمبدأ التفريق بين الرجل والمرأة بحكم الفروق البيولوجية والسيكولوجية .(2)
وقد وصفت المناديات بالمساواة بأنهن مجموعة من النساء المتعصبات اللتي ينشدن علاجا دستوريا لمشاكلهن الشخصية.
وأنهن خطيرات، ورأت -وآخرون معها- أنهن نساء، رفضن الأنوثة ورفضن دَور الزوجة والأمومة، وأنهن يتَسِمن بسلط اللسان، وعلوّ النبرة والتباكي.
وأنهن يعتبرن البيت سجنا، والزوجة والأم إماء، ويشجعن على إنشاء مراكز رعاية فدرالية للأطفال بدلا من البيوت، ويشجعن إجراء عمليات الإجهاض بدلا من تكوين الأسر.(3)
…والحق يقال أن كثيرا من مبادئ الحركة النسوية المعاصرة؛ -ومنها: المساواة والحرية المطلقة- لا تحتاج إلى كثير من البحث والتأمل للوقوف على خطرها على البشرية، ومعرفة أنها لا تصدر عن الرغبة في الإصلاح الحقيقي والشامل، بقدر ما إنها ردودُ أفعال ركبت مذاهبَ هدامة من أجل تمكين المرأة من الانتقام لما لقيته من ظلم واضطهاد، ومن أجل إشباع هوى النفوس الأمارة بالسوء.
وغيرُ خفيّ أن (اللوبي) الصهيوني استفاد من اندفاعهن غير المنضبط هذا، وزاد من وتيرته؛ لخدمة مشروعه العالمي لتخريب القيم والأخلاق، واستغل أولئك النسوة أبشع استغلال، بعد أن أوهمهن أنه في صفهن فيما هن بصدده من الانتقام، ورد الاعتبار!
فمرضت القلوب، وتمكنت الأهواء من النفوس، وتخربت الأسر، وانتُهكت الأعراض، واستفحلت الأدواء.. باسم تمتيع المرأة بحقوقها؛ وعلى رأسها: الحرية والمساواة المطلقين!
فإذا وَثَبْتَ واعظا أو قُمت مُوَعِّيا، أظهروك بمظهر المتزمت الرجعي، والمتطرف النفعي؛ الجاني على حق المرأة، الظالم لها!
ولله الأمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر نموذجا من حملتها الانتقادية في: (مجلة العلوم الأمريكية) عدد ماي (1994).

[1] وقد بلغ بهن الانحراف إلى حد محاربة الأحكام الشرعية المبنية على التفريق المذكور، باسم محاربة (النمطية) و(التمييز ضد المرأة)!

[1] انظر: كتاب [الحرية ونظام المرأة الأمريكية] تأليف: (م. إيفانز) ترجمة: (أميرة فهمي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *