من الأسئلة التي تشغل بال المؤمنات، وتتردد على ألسنة الكثيرات: هل يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن وتمس المصحف؟
وهو سؤال مهم؛ لارتباطه بعبادة جليلة، ألا وهي: تلاوة القرآن، التي قال فيها ربنا سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر].
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأجر بقوله: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها؛ لا أقول: {ألم} حرف، ولكن: ألف حرف و لام حرف و ميم حرف”. [صحيح الجامع]..
والظاهر أن الراجح من قولي العلماء؛ أنه يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن وتمس المصحف، للبراءة الأصلية وظواهر بعض النصوص:
فالأصل هو الجواز، وبراءة الذمة من التكليف، وهو مستصحب حتى يثبت دليل ناقل عن الأصل، ولم يثبت في مسألتنا دليل ناقل:
وأما قوله تعالى: {لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} فلا يصح الاستدلال به على أن الحائض لا يجوز لها مس المصحف لأمرين اثنين:
• أما الأمر الأول؛ فهو سبب نزول هذه الآية؛ وسياقها قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.
فقد ذكر العلماء في أسباب النزول أن هذه الآيات نزلت في المشركين الذين قالوا بأن هذا القرآن تأتي به الشياطين! وأن النبي صلى الله عليه وسلم ممسوس، تأتيه الشياطين بهذا الكلام! فنزلت في ذلك آيتان:
الأولى: قوله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ }، والثانية قوله سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.
فبين التنزيل الحكيم؛ أن القرآن نزلت به الملائكة، ولا يمكن أن تمسه الشياطين.
وبه يظهر أنه لا علاقة للآية بالحكم الشرعي الذي نتحدث عنه.
وأما الأمر الثاني الذي يمنعنا من الاستدلال بهذا النص على منع الحائض من مس المصحف؛ فهو لفظ “المطهرون”؛ فهذا لفظ يوحي بأن الطهارة ليست مكتسبة؛ أي ليست من فعل هؤلاء الذين تتحدث عنهم الآية، بل إنهم مطهرون خلقة؛ والموصوفون بذلك هم الملائكة؛ فهم خلق طهرهم الله وزكاهم وعصمهم، وهؤلاء هم الذين يتنزلون بالقرآن.
وبه يظهر التقاء هذا الوجه مع سابقه.
وأما حديث: “لا يمس القرآن إلا طاهر”؛ فهو حديث صحيح؛ رواه مالك في الموطأ مرسلا ووصله غيره، فهو ثابت من حيث الرواية.
ولكن يناقش من حيث الدراية والفقه؛ وذلك أن قول عليه السلام: “طاهر”؛ لفظ مشترك، واللفظ المشترك هو الذي يرد إطلاقه على معنيين أو أكثر.
وهذا اللفظ يحتمل أربعة معاني:
– يمكن أن يطلق على الطاهر من الحدث الأكبر.
– ويمكن أن يطلق على الطاهر من الحدث الأصغر.
– ويمكن أن يطلق على المؤمن.
– ويمكن أن يطلق على من ليس على بدنه نجاسة.
ولا بد لحمله على معنى معين من قرينة؛ وقد قامت قرينتان على حمله على المعنى الثالث؛ وهو المؤمن:
– القرينة الأولى: السياق
عن عبد الله بن بكر رضي الله عنه: “أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ألا يمس القرآن إلا طاهر”.
وعمرو بن حزم هذا هو عمرو بن زيد الخزرجي النجاري يكنى أبا الضحاك، قال الصنعاني: “استعمله صلى الله عليه وسلم على نجران وهو ابن سبعة عشر سنة ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن ويأخذ صدقاتهم وكتب لهم كتابا فيه الفرائض والسنن والصدقات والديات”.
فعمرو بن حزم شاب فقيه أرسله النبي عليه السلام إلى من أسلم من أهل نجران؛ ليعلمهم ويفقههم، ولما أرسله قال له: “لا يمس القرآن إلا طاهر”، أي: المؤمنون، أما المشركون فلا يمكنون من مس المصحف، فهذا الحديث يلتقي في فقهه مع الحديث الآخر في نهيه عليه السلام عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو.
وأما القرينة الثانية التي تدل على حمل لفظ الطاهر على معناه الثالث؛ ألا وهو المؤمن دون سائر المعاني الثلاثة الأخرى؛ فهو قوله عليه السلام: “المؤمن لا ينجس” [متفق عليه]؛ فالمؤمن إذن: طاهر.
وأما حديث علي رضي الله عنه قال: “رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قرأ شيئا من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية”؛ فحديث ضعيف: علته: أن في سنده راوية اسمها: جسرة بنت دجاجة، قال فيها البخاري: لها عجائب.
فلا يشرع الاستدلال به، بقياس الحائض على الجنب.
وبما تقدم يظهر أنه ليس ثمة دليل على منع المرأة الحائض من مس القرآن وتلاوته، وإلزامها بالتطهر لذلك، فالأصل جواز المس والتلاوة، وبراءة الذمة من وجوب التطهر.
ومما يؤكد استصحاب الأصل في هذه المسألة؛ ظواهر بعض النصوص:
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “قدمت مكة وأنا حائض فلم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى تطهري” [رواه مالك في الموطأ وهو متفق عليه].
فقوله صلى الله عليه وسلم: “ما” بمعنى الذي، والأسماء الموصولة من صيغ العموم كما تقرر في علم الأصول.
فيشرع للحائض فعل كل عبادة، بما في ذلك تلاوة القرآن.
ثم استثنى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك: الطواف؛ بالمخصص المتصل، وخصص بالمخصص المنفصل: الصلاة والصيام والجماع.
فبقيت قراءة القرآن داخلة في عموم قوله عليه السلام: “افعلي ما يفعل الحاج”؛ ولا شك أن الحاج يقرأ القرآن.
وإنما ثبت الدليل باستحباب التطهر للتلاوة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر”. [رواه مسلم]
وتلاوة القرآن من ذكر الله؛ فهي مكروهة بغير طهارة.
والله تعالى أعلم.