بين الأم والزوجة (العلاقة الأسرية الحساسة) حمّاد القباج

أهم العلاقات في النسيج الأسري وأكثرها حساسية وخطورة؛ العلاقة بين الأم وكِنَّتها (زوجة ابنها)، وخطورة هذه العلاقة أمر معلوم ومستفيض عند الجميع، ولا أعتقد أنني أكون مبالغا إن قلت بأن نسبة عالية من حالات الطلاق يكون سببها سوء العلاقة بين أم الزوج وزوجته..

أحببت أن أدير رحى هذه المقالة حول موضوع حساس ذي آثار كبيرة على الأسرة والمجتمع؛ وهو موضوع: العلاقة بين الأم والزوجة.
إن المجتمع الإسلامي يقوم على أسس كثيرة: من أهمها الأسرة؛ إذ تُعَد هذه الأخيرة ركنا في نجاح هذا المجتمع وسلامته من كثير من الشرور والآفات؛ ولهذا أحاطتها الشريعة بمجموعة من الأحكام والآداب، ورفعت من شأن العلاقات التي تربط بين أفرادها؛ فجعلت الزواج ميثاقا غليظا، وعظمت حق الزوج على زوجته وحق الزوجة على زوجها، وحق الآباء على الأبناء وحق الأبناء على الآباء، وجعلت صلة القرابة من أوكد الصلات وأوجبها..
قال الله تعالى في الحديث القدسي: “أنا الله و أنا الرحمن خلقت الرحم و شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بَتَتُّه”. (أي قطعته) (الصحيحة 520).
وإن من أهم العلاقات في النسيج الأسري وأكثرها حساسية وخطورة؛ العلاقة بين الأم وكِنَّتها (زوجة ابنها)، وخطورة هذه العلاقة أمر معلوم ومستفيض عند الجميع، ولا أعتقد أنني أكون مبالغا إن قلت بأن نسبة عالية من حالات الطلاق يكون سببها سوء العلاقة بين أم الزوج وزوجته.

.. وقد تأملت كثيرا في هذا المشكل الأسري، فاهتديت إلى أن حله يكمن في مسألة، إذا وجدت لزم من ذلك وجود الحل، وإذا لم توجد لم تفلح الحلول الأخرى..
وتلكم المسألة؛ هي اعتبار الزوجة أُمَّ زوجها أُمّاً لها، ومعاملتها بناء على ذلك الاعتبار.
ووجه كون هذا السلوك حلا جذريا للمشكل؛ يظهر بافتراض كون الأم ظالمة للزوجة، عازمة على الشر والإفساد في معاملتها! وهو أسوأ ما يمكن أن يقع.
فينبغي -والحالة هذه- أن تعاملها الزوجة كما يعاملها ابنها البار الرحيم لو واجهته بذلك.
ومعلوم أن الواجب عليه في مثل هذا الحال؛ الصبر والنصح بالرفق، ولا يجوز له أن يحقد عليها أو يسعى للانتقام منها، بل لا يجوز له مقاطعتها.
فإذا حذت الزوجة حذوه؛ أفلحت، وسدت كل الأبواب التي يريد الشيطان فتحها لتشتيت الشمل وتفكيك الروابط.
وغير خاف أن هذا النوع من التعامل حث عليه القرآن وندب إليه الرحمن فقال سبحانه: “وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” (فصلت 34).
قال المفسرون: يقول تعالى: “وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ” أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات لأجل رضا الله تعالى، ولا فعل السيئات والمعاصي التي تسخطه ولا ترضيه، ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها “هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ”.
ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: “ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإنْ قطَعَك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصلت فائدة عظيمة.
“فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ” أي: كأنه قريب شفيق.
“وَمَا يُلَقَّاهَا” أي: وما يوفَّق لهذه الخصلة الحميدة، “إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا” نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان إليه؟!
فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه، ليس بواضع قدره، بل من تواضع للّه رفعه؛ هان عليه الأمر، وفعل ذلك، متلذذًا مستحليًا له.
“وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ” لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة.
هذا على الافتراض السابق؛ وهو كون الأم على تلك الدرجة من الشر والمكر، فما دون ذلك من الحالات أولى بأن ينفع فيه مثل ذلكم التعامل.
ولا ينبغي أن يُفهم من كلامي أن حل المشكلة قاصر على الزوجة، وإن كانت تتحمل الجزء الأكبر منه لسببين؛ شرعي ومنطقي:
أما الشرعي فمن وجهين:
الأول: أن الأم أكبر منها؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه” (رواه أحمد بإسناد حسن).
التفريق بين المرء وزوجه مطلب عظيم للشيطان كما دل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْت”. أي: نعمَ ما فعلت أنت.
الثاني: أن حق الأم على ولدها عظيم؛ وأداء هذا الحق من أعظم ما تعين الزوجة زوجها عليه.
وأما السبب المنطقي؛ فهو أن الزوجة هي الطارئة على الأسرة، وتحتاج في تقوية الأواصر بينها وبين أفرادها كالأم والأخت إلى ما لا يحتاج إليه الآخرون.
وإذا كان تحقيقها لذلك مع الزوج يسيرا؛ بما تملكه من الأسباب الغريزية والعاطفية، وما تقدمه من الخدمات لأداء حقه الشرعي..
فإن الأمر يختلف مع الأم، فضلا عن غيرها كالأخت والعمة..
فهذا هو السر في كون الزوجة تتحمل الحظ الأكبر من المسؤولية في هذه المسألة الحساسة. وإلا فلا بد للأم من أداء واجبها لتفادي كون العلاقة بينها وبين كِنتها سلبية على الأسرة؛ وسر نجاحها في هذا يرجع في نظري إلى تفطنها إلى أصل الداء، وهو باختصار: الحسد!
أجل؛ فإنها تحب ولدها، وتعطيه بدافع ذلك الحب الغالي والنفيس، وقد جاءت الزوجة لتنافسها في ذلك الحب، وتشاركها في ما يحمله الزوج من حب في قلبه، وقد تأخذ منه الزوجة قسطا عظيما، وهذا يذكي نار الحسد في قلب الأم، فتحرق تلك النار حبل المودة، بعد أن حزّت فيه عوامل أخرى؛ كحب المال والانتفاع المادي؛ حيث أن الأم ترى أنها جاهدت وبذلت وضحت ليصير ابنها رجلا قادرا على السعي والنفع، وتريد أن تجني ثمار تلك القدرة، ولا تحب أن يشاركها في ذلك من لم يبذل ما بذلت ولا قدم ما قدمت..
فإذا فقهت الأم أسباب الخلل، ولاحت لها مواطن الزلل؛ سهل عليها أن تحسن السير في هذا الطريق الوعر، ولتستعن بما يلي :
1- وعيها بأن حسن علاقتها مع كِنتها من أسباب سعادة ابنها، والعكس بالعكس.
2- احتساب تربيتها لولدها عند الله بأن يكون هدفها الأول والأساس من تنشئتها وتربيتها لولدها هو ابتغاء مرضاة الله وطلب الأجر منه فما زاد على ذلك فخير، وما فات من غيره فَهَيِّن.
3- أن تستحضر الوعيد الوارد في الحسد؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : “إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”.
ومما تستعين به أيضا؛ أن تستحضر أن التفريق بين المرء وزوجه مطلب عظيم للشيطان كما دل على ذلك ما أخرجه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً؛ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْت”. أي: نعمَ ما فعلت أنت.

فهل ترضى الأم أن تكون خادمة لمقاصد الشيطان؟!
..ولا يحسبن الزوج أنه بمعزل عن المشاركة في هذا المنحى الإصلاحي؛ وليعلم أن له دورا لا يستهان به؛ يحتاج فيه إلى الحزم والحلم والحكمة، وقبل ذلك وبعده: التوجه إلى الله تعالى بالدعاء أن يؤلف بين قلبي أمه وزوجته، وأن يدفع عنهما كيد الشيطان ومكره.
وليستحضر قول الله تعالى: “لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” (الأنفال 63).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *