نهجت إدارة الاحتلال في بداية عهدها بالمغرب نهجا مخططا له بطريقة تكشفها لنا اليوم وسائل البحث في التاريخ السياسي عموما والاجتماعي بنوع أخص، فلقد عمل دهاقنة الاحتلال الأوائل على نشر التفسخ والانحلال والمجون باسم التنظيم الاجتماعي، وإصلاح الإدارة.
فبدعوى حرية التصرف كما يتصورها الفرنسيون وباسم الحرية ظهرت مستحدثات لم تكن معروفة في المجتمع المغربي ومنها مواخير الدعارة العلنية رسميا، وبحماية القانون، بحيث أبيحت في أماكن معينة خصصت لها في كل مدينة، وفي أماكن معينة من الأحياء الشعبية، مثل حي مولاي عبد الله بفاس، ووقاصة بالرباط، والمرس بمكناس، وبوسبير بالدار البيضاء، وعرصة موسى وعرصة الحوت بالمراكش حيث نشط الجلاوي في هذا المجال وما سجله غوستاف بابان حول الجلاوي ومواخيره حيث أصبح له مواخير في مدن متعددة بالمغرب وخارج المغرب.
وأصبح الباشا الجلاوي أول مستثمر في هذا الميدان حيث اتخذ مكانيين كبيرين هما: عرصة موسى وعرصة الحوت بمدينة مراكش، حيث كان يجلب لهما العاهرات من مختلف الجهات واللائي كان قد نظمهن بواسطة مسيرات قابضات، ويشرف على الجميع المسمى “الحاج البياز” والذي كان يجمع منهن آخر كل ليلة وقبل وسط النهار ما تجمع لهن من كراء الفروج بطريقة عادية، وبلا خجل ولا وجل؛ مثل ذلك عنده كمثل مداخيل سوق من الأسواق.
والذي نافس الجلاوي بمعدل 10% هو باشا فاس، وذلك بحكم استعجاله للثراء، وبما بلغه من خبر مداخيل الجلاوي اليومية، وتقول رواية مساعديه أنه فقط فرض على من لها مجموعة من العاهرات قدرا تدفعه أسبوعيا، لكنه بعد زمن وقد تحقق من نمو المكاسب شيد لنفسه ماخورا باسم فندق مشرف على الباب الجديد وبالقرب من داره، خصصه للانحراف الذي مكن له اليوطي، وهذا ما أغرى روم لاند حيث قال ما قال في كتابه “جورنال أوف موركو الصفحة 181 على الشذوذ الجنسي في المغرب وأن كل نساء فاس عاهرات” ومع ذلك كرمه القوم وأغدقوا عليه؟!!
وبحكم ما أصبح للمجالس البلدية تحت إشراف المندوب الفرنسي من حق التسيير والتوجيه، ظهرت في المجتمع عادات وأخلاق؛ منها إلى جانب ما سبق ذكره؛ ما قام به اليهود في ملاحهم بفاس الذين أخذوا يتاجرون في الخمور سرا مما جلب على المدينة الشر، ومنهم من انتقل إلى المواخير المشار إليها، ثم إلى بيوتات القدماء من ذوي الحمايات.
كما وجدت عادات أخرى فاسدة طريقها إلى المجتمع بواسطة ما جد من قلة الزواج من بنات الأوساط التي فاحت رائحة خمورها وفجورها، مما دفع إلى شراء الأزواج بواسطة ما يعلن عليه من شورة الزوجة وما ستحمله لدار العريس من حلي وحلل، كما يعلن عنها في حفلات الزفاف، وبسبب ذلك ومن غير أن تعرف الطبقة المتوسطة التي كانت وقتها تمثل الأغلبية انساقت إلى المحاكاة ثم التنافس فظهرت تلك الفظائع المتمثلة في التظاهر بكثرة الحلي والديباج في الأعراس، وولائم العقيقة، والختان، التي أصبحت تقام بواسطة الماشطات و”العريفات” والحجامة يحضرها النساء متبرجات في كامل زينتهن وقد أحطن بمجموعة من الراقصات يحركهن ما يعزفه الرجال من موسيقى، ويصيح به بعضهن من كلام سافر أحيانا.
هذا ما دفع الغيورين من الوطنيين الشرفاء وعلى رأسهم شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي رحمه الله وما يقرب 700 منهم 143 من الشرفاء، و500 من الأعيان والتجار، و53 من أهل فاس الجديد، وقصبة فيلالة، إلى توقيع عريضة نذكر بعض ما جاء فيها:
“لقد حدث من البدع والمنكرات واخترع من العوائد الشيطانية والمباهاة، ومن التطاول في فرش الحرير الخالص، والذهب، وتبرج النساء بالحلي والحلل، في غير دورهن، وتجمهرهن بتلك الصفة أمام المومسات المغنيات، وخروجهن لسائر المواسم والأفراح وسائر المآتم والأفراح، وأساس عمدتهن في ذلك الماشطات اللائي ينتزعن منهن ومن رجالهن ثروتهن، ويختلسن إياها مع ما شاع وذاع في حفلات الرعاع، في هتك الأعراض واختلاط النساء بالرجال، والتكهن والتطلع بالزعم على الغيب وخبال ضعفة العقول بذلك، وشدة التبذير في المآتم والأفراح، إلى ما لا حد له من المحرمات والمناكر، وما تتنزه عنه الألسنة وأقلام المحابر”.
وبمن الله وفضله ثم بمجهود شيخ الإسلام عادت فاس جزئيا إلى ما كانت عليه في الزمن الغابر، وحتى باقي رجالات الرعيل الأول في مختلف المدن؛ قاموا بتنبيه من حولهم حتى لا يمزق مجتمعهم شر ممزق، اقتداء بما فعله شيخ الإسلام، فكانت تلك هي بداية الطفرة السياسية في المغرب سنة 1926.
انظر التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير
الجزء 9 الصفحة 219 وما بعدها