سلسلة مرافعات في الدعوة السلفية المرافعة الثالثة: السلفية.. و(التسامح) -1- ذ.طارق الحمودي

فهذا زمان كثرت فيه المذاهب الفكرية المتعددة الأصول والروافد، منها ما هو قديم متجدد؛ ومنها ما هو حادث طارئ على ساحة الخلافات الأيديولوجية، وفي هذا الحساء الفكري بقيت الدعوة السلفية بنقاء مشاربها وثبات أسسها وبيان حجتها واضحة المعالم بينة المسارات تنفي عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فهذه وظيفتها؛ وهذا دورها الحضاري الذي لم ينقطع أبدا وإن خفت نوره أحيانا لظهور دولة الشبهات والشهوات في كثير من المراحل التاريخية للإسلام!

وفي كل هذا لم تسلم الدعوة السلفية وهي منشغلة بالإصلاح والتصفية والتربية من شر أذية الأجناس الثلاثة المخالفة لها المذكورة آنفا (المبطلين) و(الجاهلين) و(الغالين). فرميت بأنواع غير متجانسة من التهم والافتراءات كذبا وتدليسا أحيانا؛ وجهلا بها وبحقيقتها أحيانا أخرى.
وكانت رغم ذلك كله ولا زالت ثابتة تقوى مع كل محاولة تشويه.. متشبعة باليقين مع كل مضايقة من هنا أو هناك.
وقد تعاقد كثير من الفرق مع الظلم في تحالف الأهواء والمصالح لضعف الحجة وقلة البضاعة الحوارية فأسسوا جبهة موحدة تقريبا لإنتاج المطاعن في مصانع الإفك ضد الدعوة السلفية.
وقد تولى كبر هذا من بين كثير من المذاهب الفكرية والمناهج العقدية طرفان معروفان بالعداء الكامل المطلق للدعوة السلفية؛ وهما ممثلان بامتياز لكل من لم يستطع قبول السلفية فاعلا اجتماعيا يفضح الظلم ومحاولات التدليس على الشعوب الفطرية وهما: العلمانية العربية والتصوف البدعي. مع التحفظ على المصطلحين، فقد دعا إلى ترك استعمال الأول محمد عابد الجابري.. العلماني المغربي في كتابه، وبين سذاجة أصل كلمة (الصوفي) ابن تيمية في الفتاوى!
وقد أحصيت بعضا من أصول اتهاماتهم للدعوة السلفية فوجدتها متقاربة، وفي هذه المرافعة أتحدث عن اتهامهم لها بأنها غير متسامحة مع خصومها.. بل ومع المجتمعات الإسلامية!!
وقبل البدء في المرافعة أود التنبيه إلى أن التسامح مصطلح يحتاج إلى تحرير كي لا نقع في مغالطة أو تيه عند بدايات الحوار والمرافعة.. وقد قال الجابري العلماني في (قضايا في الفكر المعاصر/ص:29): (لا بد من التدقيق في المعنى الذي ينبغي إعطاؤه لكلمة (تسامح) عندما يراد توظيفها ليس في الفلسفة وحسب بل وفي الدين والسياسة أيضا).
فالتسامح في اللغة التساهل، وهو يقتضي طرفين يتساهل كل واحد مع الآخر. قال الزبيدي في تاج العروس: (وتسامحوا : تساهلوا) وفي التساهل معنى التوسعة، تقول العرب: (عليك بالحق فإن فيه لمسمحا) أي متسعا كما في لسان العرب.
وأما معناه الاجتماعي فقد جعله شوقي أبو خليل قائما على ثلاثة عناصر: الصفح والعفو والإحسان.
والإسلام على هذا دين تسامح. وأدلة ذلك كثيرة جدا تتبعها جمع من الفضلاء والمحبين فانتقوا من آي الكتاب أطايب العبارات القرآنية، ومن السنة المشرفة أزكى الأحاديث وأينعها.
فأصاب قلوب العلمانيين الكمد والحنق والحقد فلم يرضوا فعلهم، ولم يستسيغوا طريقتهم، فكتب العلماني الجزائري الفرنسي محمد أركون أحد كبار أساتذة العلمانيين في المغرب يستنكر (في كتابه: قضايا في نقد العقل الديني ص:249 وفي غيرها) حرص علماء الدين على انتقاء الآيات والأحاديث الدالة على تسامح الإسلام وأنهم يغضون الطرف عن النصوص المشكلة في الموضوع!! يقصد آيات الجهاد وغيرها، ولا مشكلة إلا في عقله!
فقال مثلا (ص:239): (كيف يمكننا ضمن هذه الشروط أن نقبل بالموقف التبجيلي الإسلامي الشائع؟ أقصد الموقف الذي لا ينفك يستشهد بالآية القائلة (لا إكراه في الدين) من أجل التأكيد على أن الإسلام قد سبق غيره من الأديان إلى التنظير للتسامح بل وممارسته عمليا).
بل جعل التسامح في السياسة أوسع وأشمل معنى من التسامح في الإسلام، وقد أوتي من جهله أو حقده. فالرجل له اطلاع ضيق على الإسلام وشريعته ومقاصده؛ وأسرار حسنه وجماله؛ وأسس قوته وكماله، وكتاباته خير شاهد على ذلك، ولو تتبعها باحث لكانت مجلدا مكنزا!!!
وليعرف القارئ قصدي فليتأمل تعريفه للتسامح السياسي في كتابه (النقد، ص:243): (الاعتراف للفرد المواطن بحقه في أن يعبر داخل الفضاء المدني عن كل الأفكار الدينية أو السياسية أو الفلسفية التي يريدها، ولا أحد يستطيع أن يعاقبه على التعبير عن آرائه)!!
هكذا تكون الأشملية والأوسعية وإلا فلا!!
وأود التنبيه إلى أن محمد أركون لا يخفي اعتقاده بوجود مشكلة اللاتسامح في الإسلام نفسه فتحدث (ص:231) عن: (مشكلة التعصب داخل الإسلام نفسه)، وقال أيضا في (الفكر الإسلامي، قراءة علمية ص:96): (نلاحظ أن وصف المعارضين يختزل إلى كلمة واحدة هي “المشركون” لقد رُمُوا كلياً ونهائياً وبشكل عنيف في ساحة الشر والسلب والموت، دون أن يقدم النص القرآني أي تفسير أو تعليل لهذا الرفض والطرد)!!!
وبهذا يظهر الموقف الحقيقي للحداثيين من الإسلام في مسألة التسامح، فليست مشكلتهم إذن مع التطبيق (اللاهوتي الإسلامي)! -كما زعموا- بل مشكلتهم مع الإسلام نفسه!
ومن أراد سقاية قلبه من وحي السماء مع مقبلات بيانية في مسألة التسامح الإسلامي الصحيح فليقرأ فصلا رائعا للأستاذ سيد قطب رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) فقد بين ووضح، ورد وفضح، بعبارات مصفوفة وكلمات من نور..! وإن شئت الفاكهة فسارع إلى مقدمة الأستاذ شوقي أبو خليل على كتابه (التسامح في الإسلام).
وقد كان بودي المسارعة إلى بيان حقيقة موقف السلفية من التسامح.. لكنني وجدت نفسي رغما عنها تنساق إلى مكان آخر من المرافعة.
فقد صاحبتني وأنا أصوغ مقالي هذا كلمة أبت إلا أن أجعل لها محلا من المرافعة وهي المقالة المشهورة: رمتني بدائها وانسلت.. فقلت في نفسي السنة أولا: يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه! ولست أزعم فرية إن قلت: هذا مفتاح المرافعة.
جالت في ذهني تعبيرات صحفية قيلت على منابر إعلامية، فاصطدتها واحدة واحدة لأعرف حقيقة المناخ الفكري والاجتماعي الذي نعيش فيه فوجدتهم يقولون:
(الفكر السلفي غير مندمج في المجتمع.. الفكر السلفي المتحجر.. الفكر السلفي المتعصب الدوغمائي.. الفكر السلفي المتزمت المنغلق.. النصوصي، الفكر التقليدي السلفي ودوره في إحياء العداء).
فهل نحن كذلك.. إن المرء بعد هذه الجرعة القوية من التهم من العيار الثقيل يحس وكأنه يصدق ذلك.. ثم ما يلبث أن يعود بعد الصدمة الأولى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *