يقول عبد الباري عطوان: إن الإعلام الغربي شوهد بعد أحداث شتنبر وهو ينحاز إلى “سياسات تريد تدمير المنطقة والسيطرة على ثرواتها”، مشيرا إلى ما تردد في وسائل إعلام الغرب عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق وعن علاقة بين نظام صدام حسين والقاعدة.
هكذا يحب الإعلام الغربي أن يصطاد في الماء العكر ضدا على توخي الصدق والدقة اللذان ينادي بهما ميثاق الشرف الصحفي، بل يتبنى أطروحات الكذب والتزوير مثلما فعل بعضٌ من الإعلام الإسباني مع أحداث العيون[1]،كما يعمل على طمس الحقيقة إذا كانت ضد مصالح الغرب، وأخص بالذكر مصلحته في حماية الكيان الإرهابي في فلسطين، وظهر ذلك جليا لما رفضت هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي إذاعة النداء الذي تقدمت به الجمعية الخيرية في بريطانيا لإغاثة أهالي غزة، على الرغم من وجود تقليد راسخ لدى الهيئة منذ عام 1963 بتخصيص حيز لبث نداءات الدعم في الحالات الإنسانية المشابهة للوضع في غزة؛ إلا أنها رفضت بث ذلك النداء، بأعذار أوهى من بيت العنكبوت.
ولنحو أربعة أسابيع متواصلة ظل الشعب التونسي يواجه آلة الموت التي لم يتردد نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي في استخدامها بقسوة بالغة على سمع وبصر الإعلام الغربي الذي لم يجرؤ على التفوه بكلمة واحدة تدين هذا القمع المتصبب على مواطنين عزَّل يطالبون بحرية سُلِبوها لمدة ثلاث وعشرين سنة، ولم يستعمل كاميراته الخفية على نحو ما يفعل في أفغانستان وكوريا الشمالية؛ بل على العكس من ذلك كان يروج “للطفرة الاقتصادية” التي “حققها نظام ابن علي”! وفي المقابل كانت المساندة قوية، والمواكبة أولا بأول للثورة المخملية في جورجيا، والثورة البرتقالية في أوكرانيا، بالصوت والصورة؛ وبالخبر والتعليق؛ والتحليل والدعم غير المشروط؛ لأن زعيمي “الثورتين” كانا مواليين للغرب. أما الشعبان التونسي والمصري فهما شعبان مسلمان، وحسب تعبير روبرت غيبس فالبيت الأبيض لا يعتبر الديمقراطية من انشغالات واشنطن الأساسية في الوقت الحاضر.[2]
إن مما يظهر من سلوك الإعلام الغربي في مجمله، خاصة الإعلام المسيطر، وذا النفوذ القوي، أنه غير مستقل عن أصحاب القرار السياسي، لدرجة أنه يقوم بتقطير المعلومات، وتقطير الديمقراطية، كما يُقَطَر الماء للميت، وهذا ما ظهر جليا في الثورتين التونسية والمصرية، ومثل هذا أوضحه مراسل صحيفة ذي إندبندنت البريطانية في الشرق الأوسط روبرت فيسك[3] حين قال: إن الإعلام عندما يستخدم مصطلحات السياسة يصبح جزء من تلك الطبقة التي تحكم العالم، ونبه إلى المغالطات التي تحملها تلك العبارات عندما تسمى مناطق محتلة بمناطق متنازع عليها؛ وجدار العزل بالجدار الأمني؛ وعبارة مستعمرات بدل مستوطنات، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة استخدمت الكذب في حروبها.
ويقول عمرو حمزاوي مدير أبحاث الشرق الأوسط بمؤسسة كارنيغي: “يعتمد الإعلام الناجح، خاصة في عصر الفضائيات والإنترنت والاتصالات الفورية، على المتابعة السريعة لآخر خبر في أقصى الكرة الأرضية. وهو ما قد يوحي لمستهلك وسائل الإعلام الغربية أحياناً بأنه يحيط بآخر التطورات، أو أنه يستطيع الإحاطة بها لو تابعها بدأب. وتبزغ هنا حقيقة تحيز وسائل الإعلام الأمريكية، بين إبرازها لهذا الخبر، وإغفالها لذاك، وتناولها المجتزأ عمداً لحدثٍ جلل كاحتلال العراق، وتغطيتها التفصيلية المملة على مدى أسابيع لموت شخصية تافهة مثل المليونيرة والممثلة الثانوية وراقصة التعري آنا نيكول سميث، ناهيك عن كل الأجندات الخفية لاحتكارات الإعلام الضخمة المرتبطة بالشركات متعدية الحدود واللوبي اليهودي المتغلغل في ثنايا وسائل الإعلام الغربية”.
ولتأكيده على الانحياز الغربي، وطريقته الانتقائية في اجتزاء الأخبار أشار حمزاوي إلى إنشاء مجموعة من المثقفين والأساتذة الجامعيين الأمريكيين من ذوي النزعة اليسارية لمشروع شعبي ضخم لكشف أهم القصص التي لم يغطها الإعلام الأمريكي أو التي مرَّ عليها مرور الكرام أو فرض رقابة ذاتية عليها[4].
وكمثال على التعتيم الإعلامي الغربي على بعض القضايا المهمة نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
– قصة تعتيم الإعلام الأمريكي على دور المساعدات الأمريكية في تمويل الإجراءات القمعية الصهيونية في الضفة وغزة.
– التعتيم على قضية الطفل الفلسطيني في سجون الاحتلال.
– التعتيم على قصة قيام ضباط أمريكيين بتعذيب المعتقلين حتى الموت في العراق وأفغانستان (كشفت لأول مرة في خريف عام 2005).
– التعتيم على دلائل تشير لدور الإدارة الأمريكية في فساد وتبديد أموال متصل ببرنامج النفط مقابل الغذاء.
– التعتيم على القوانين المقيدة للحرية الإعلامية التي أصدرها بول بريمر في العراق (كشفت لأول مرة في ربيع 2003).
إن الإعلام الغربي على غرار ساسته، “لا ينحاز” لأي من الطرفين[5]، عندما يُحْشَر في الزاوية بين ما ينادي به في العلن، وما يؤمن به حقيقة في السر. وكمثال على ذلك اتخاذه موقفا وسطا بين الطغيان والشعب في مصر؛ ولم يكن الأمر كذلك في لبنان ولا في أفغانستان، حيث انحاز إلى الجهة الموالية له؛ أما في العراق فلم يتخذ فيها موقف الحياد فقط، بل ساند نشر “الديمقراطية/العلمانية” بالحديد والنار، إما بالصمت والتعتيم أو بالتواطؤ والتزييف.
إن الثورة المصرية كشفت وجه الإعلام الغربي الحقيقي، هذا الوجه المزدوج المكون من وجهين: وجه للموالاة؛ ووجه للمعارضة في العالمين العربي والإسلامي، لأنه لو وقعت هذه الثورة في بلد لا يوالي حكامُهُ الغرب لكانت التغطية مختلفة[6]، والتهويل مفرطا، فضلا عن نقل ما يقع، أما التحليل والتعليق فسيُصَبُّ في صالح الثوار، بل سيعمل على تأجيج نار غضبهم. أما وأن النظام المصري خادم للغرب، فإن شيئا من ذلك لم يكن، مما دفع الإعلام الغربي لعدم إيلاء الثورة تلك الأهمية التي أولاها للثورتين البرتقالية والمخملية.
أما التحليلات والتعليقات فغابت بالكلية، حتى ظهرت “فزاعة الإخوان”، بل إن طريقة إيراد الخبر ملغومة، لأن هذا الإعلام المغرض في جملته يتحدث مثلا عن اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين لمبارك، مع أن الواقع يقول إن أزلام النظام هم من قام بأعمال العنف.
وفي غمرة هذه الثورة لم نسمع من الإعلام الغربي تلك الدروس المفعمة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وكأن الأحداث في مصر لا علاقة لها بالديمقراطية وحقوق الإنسان!
إن مما يستشف من خلال “تغطية” الإعلام الغربي للثورة المصرية، أنه على غرار ساسته، في ضرب تام لاستقلاليته عنهم، يريد أن يرحل مبارك، بعد تسليمه مقاليد الحكم لأيد أمينة على مصالح الغرب، فرحيل مبارك عندهم لا يعني بأي شكل من الأشكال تماهيهم مع مطلب المتظاهرين -كما يقتضيه مفهوم الديمقراطية- المتمثل في رحيل النظام.
وكدليل على أن الإعلام الغربي يصطاد في الماء العكر ويتبع ساسته حذو القذة بالقذة فقد كتب نيكولاس كريستوف مقالا في “نيويورك تايمز” يوم الأحد 6 فبراير الجاري بعنوان: “المناضلون والنساء وميدان التحرير”: “أن الغربيين -عند مشاهدتهم ما يحدث في مصر على شاشات التلفاز- كانوا يحسون بامتعاض من فكرة الديمقراطية الشعبية التي قد تعطي صوتا أكبر للأصولية الإسلامية”.
وأضاف أنه لما كان في ميدان التحرير قال: “سألت باستمرار النساء والأقباط المسيحيين ما إذا كانت مصر قد تؤدي بها الديمقراطية في نهاية المطاف إلى بلد أكثر قمعية”.
وكتب أيضا: “رأيت في أحد الرسوم الكاريكاتيرية السيد مبارك مع رسم نجمة داود على جبهته، وبشكل منفصل، لافتة تعلن: “قل له باللغة العبرية، كي تصله الرسالة!”
ثم سأل المتظاهرين عن مصير السلام في المنطقة!
هذا هو الإعلام الغربي، وهذا هو تعامله مع قضايانا العربية والإسلامية، لا يهمه في ذلك ديمقراطية ولا حقوق الإنسان، بل شغله الشاغل هو مصالحه، على غرار ساسته.
1- ولم نر من الإعلام الغربي أي مبادرة تلقائية لفضح هذه الممارسة، وإقامة الموائد المستديرة حولها.
2- كان هذا الموقف قبل ارتعاش الغرب من تأجج الثورة.
3- روبرت فيسك استثناء وليس قاعدة
4- وتوجد هذه التفاصيل وغيرها على موقع المشروع على الشبكة العنكبوتية: www.projectcensored.org. هذا الموقع الذي لم يسلم هو الآخر من جعل انتقاد دور اليهود والجماعات اليهودية في صياغة توجه الإعلام الغربي خطا أحمر.
5- كان هذا إبان الأيام الأولى للثورة.
6- فلو وقعت الثورة في سوريا أو كوريا الشمالية، فسيلبس الإعلام الغربي قناعا غير الذي يرتديه هذه الأيام، وهو نفس القناع الذي ارتداه في قضية دارفور واستفتاء تقسيم السودان.