1-توطئة
وجب التمييز، أولا، بين الدين والتدين، فالأول يعني الدين في جوهره الوجودي، فيما يعني الثاني الدين في جوهره الاجتماعي والسياسي. بتعبير مفكر سوداني معروف، الأول هو العمود الثابت (عنصر ثبات)، والثاني هو ما يدور حوله (عنصر مرونة). ولا ندري ما كان يقصده المفكر السوداني بتعبيره، أيقصد ما اعتاد عليه الفقهاء؟ أم يستصحب ما اعتادوه لإيجاد صيغة توفيقية بين ديدنهم وما يقوله البحث التاريخي عن الدين والتدين؟
لا تدخل هذه الإشكالية في صميم اهتمام هذا المقال، فمرادنا هنا أن نبرز بعض الملامح من تاريخ التدين المغربي، هذا التدين الذي يحمل في أحشائه بذورا من الجوهر الوجودي للدين، من غير انفصال عن شرطه المغربي الخاص الذي أنتج جوهره الاجتماعي.
2-التوحيد والدولة
لقد كان الفتح بالقرآن، في أرض المغرب، سابقا على الفتح بالسلطان. إذن، فلنطرح السؤال التالي: ما تفسير إقبال المغاربة على دين الإسلام من غير قوة ولا سلطان أول الأمر؟ لا بد أن حاجة ما دفعت المغاربة دفعا إلى دين التوحيد، فاعتنقوا عقيدته كأساس لدولة قادمة، لدولة تنتظر شرطها السياسي لتخرج للوجود.
كان التوحيد، بالنسبة للمغاربة، أساسا إيديولوجيا للدولة؛ أساسا افتقروا إليه، فكانت محاولاتهم لتأسيس دولتهم دائما ما تنتهي بالفشل، تعوزهم فيها العقيدة الجامعة. كانت كل كونفدرالية قبلية سرعان ما تنشطر على نفسها، لتنتج “تاقبيلتاتها” من جديد. فالأساس العقدي (الإيديولوجي) الذي من شأنه أن يكرس الوحدة كان مفقودا، فتأخرت الدولة.
وهكذا، سبقت الإيديولوجيا الجهازَ إلى أرض المغرب، فما كان من الأدارسة إلا أن أكدوا تلك الإيديولوجيا وأولوها، ثم استثمروها في وضع جهاز الدولة.
3-قراءة المغاربة
قلنا إن المغاربة عرفوا القرآن قبل معرفة السلطان، فكانت قراءة المكتوب وحفظه أول عهدهم بالقرآن، على يد الدعاة الأوائل القادمين من المشرق العربي الإسلامي. فتأثرت قراءتهم للقرآن، قبل أن يستقلوا بتأويلهم للإسلام، بالمشرق من جهتين: الحرف والتفسير (الفهم).
عموما، لم يخرج التفسير عن جدل العلاقة بين الدولة المجتمع، عبر مختلف مراحل التاريخ المغربي. يسود تفسير ما المجتمعَ كلما كانت الدولة أكثر قدرة على بسط سلطانها الإيديولوجي على أفراده، وينحسر هذا التفسير كلما زاحمته تفاسير أخرى تنتجها حركات المجتمع، التي تتحول إلى دولة فيما بعد، أو ينتهي بها المطاف إلى الانهزام بين فكي الدولة السائدة.
أما الحرف، فقد كان مشرقيا في البداية، كما قلنا؛ إلا أن المغاربة أدمجوه في تجربتهم التاريخية، فكانت لهم مدارسهم الخاصة في القراءة: مدرسة قراءة الإمام نافع، مدرسة ابن بري، مدرسة الخراز في الرسم، مدرسة أبي عبد الله الصفار، مدرسة ابن غازي، مدرسة ابن القاضي، بعض الآراء في التجويد. (محمد المختار ولد اباه، تاريخ القراءات في المشرق والمغرب، منشورات “إيسيسكو”، 2001)
4-حديث المغاربة
اعتنى بالحديث النبوي الشريف من المغاربة سلاطينُ وعلماءٌ، رجالٌ ونساءٌ (الأميرة العلوية العالمة خناتة بنت بكار)، كبارٌ وصغارٌ، أسرٌ وأفراد؛ اعتنوا به فاتحين ومستقرين، مع تفاوت فرضته الحاجة؛ واعتنوا به قدماءَ ومعاصرين، حسب المطلوب من كلّ منهم.
نبّه إلى أهميته الفاتحون، ونظم له المغاربة الرحلات إلى المشرق (العلمية/ الحج)، وطلبه الأدارسة في متن “موطأ الإمام مالك”، وبرّز علماءَه المرابطون، وأسس الموحدون مجالس تدريسه والامتحان فيه، وأحب المرينيون أهله، وأوقف على مجالسه الوطاسيون أوقافا، ورسّم السعديون سرده وقراءته، وتخصص فيه بعض السلاطين العلويين وطوروا العناية به. (محمد عز الدين المعيار الإدريسي، درس “عناية ملوك المغرب بالحديث النبوي الشريف”، سلسلة “الدروس الحديثية البيانية”، إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم).
وهكذا، عرف المغاربة الحديث بمجهودات محدثيهم وفقهائهم، وبأمر وإشراف من سلاطينهم وملوكهم. الحديث، في المغرب، نتاج علاقة بين الدولة والمجتمع، علاقة مضمونها هو ما حدد المعالم الكبرى للمدرسة المغربية في دراسة سند ومتن الحديث.
5-فقه المغاربة
المغاربة، في الفقه، مالكيون. وليس ذلك منذ زمن المرابطين فحسب، بل منذ زمن الأدارسة. فقد “كان المغاربة في أول عهدهم بالإسلام على مذهب جمهور السلف، أصولا وفروعا، اعتقادا وتشريعا، كمذهب الإمام أبي حنيفة ومذهب الإمام الأوزاعي وغيرهما، إلى أن استقروا على مذهب الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه أيام الأدارسة”. (محمد الروكي، المغرب مالكي.. لماذا؟ منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2003، ص 5)
ولم تدم فترة ضرب الحصار على المذهب المالكي، في عهد السلطان يعقوب المنصور الموحدي، أكثر من خمسين عاما. ومن شدة تعلق الفقهاء المغاربة بالمذهب المالكي، فقد حافظوا عليه ودافعوا عنه، طيلة تلك الفترة. (نفسه، ص 9)
6-“خلعاء” المغاربة
وتلك فئات تنتهي ويتلاشى دورها شيئا فشيئا، مَهما كان تأثيرها. لها في زمننا المعاصر وجود عرضي هامشي شذوذي، كما كان في السابق بالنسبة للخوارج والبورغواطيين والعكاكزة… وغيرها من الفرق والطرق.
ووجب التنبيه إلى أن تركيز بعض الباحثين ومراكز البحث، على تاريخ هذه الفئات، ليس بريئا. فالعمل على تحويل العرضي إلى جوهري، وخاصة إذا كان هذا العرضي غير قابل للتحويل في شرط ما، آيل إلى الفشل؛ إلا أنه يكون مشَغّبا على الخط العام، مربكا للتدين المغربي.
لم ننسق، في هذا المقال، نحو هذا المنهج، أي تسليط الضوء على العرضي على حساب الجوهري، لأننا نعي أن التاريخ “رجوع للماضي بإشكالية في الحاضر والمستقبل”. التأريخ غير، والتاريخ غير. الأول اشتغال على الشواهد بمنهج علمي متقدم (عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، الجزء الأول)، والثاني استعادة للماضي لا تخلو من فلسفة وسياسة/ أدلجة.