إذا وقعت الفتن والحوادث، وتشتتت المصالح والأهداف، وتسيَّست المواقف والآراء، اضطربت الأفكار والأقوال والتصرفات عند الكثيرين، وما حدث في تونس، وما يحصل في مصر لا يخفى على البصير.
وفي خضم ذلك يبحث المتوجع بسبب هذه التغيرات على مخرج صدق، وعلى قول حق، يصدر من أهله الذين عندهم فقه في الأحكام الكلية، ودراية بالأصول العلمية، وتصور تام للوقائع الجارية، وتَمكُّنٌ من تنزيل النصوص عليها بكل روية، وما أولئك إلا أرباب العلم المحقق، لا الهذيان المزوق، ولا الرأي المنمق، فإن الكلام في مواضع الفتن والمحن لا يعتبر إلا من أهل الغيرة والفهم، ولا يعتد بقول غيرهم ممن يخوض بجهل وظلم، فإن العلماء نالوا السؤدد بعلمهم، لا بجاههم ولا أموالهم.. كما قال تعالى: “نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء“، قال مالك رحمه الله: “بالعِلم”1.
ولذا أنيطت بهم مهمة البلاغ والبيان، والإيضاح لحكم الله في الوقائع والأحوال فإن “أهل السنة يخبرون بالواقع ويأمرون بالواجب، فيشهدون بما وقع، ويأمرون بما أمر الله به ورسوله “2.
وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء في التعظيم والإجلال، فإنهم كذلك ورثتهم في إقامة الحجة على الناس والبيان، وهذا الأخير أحد قسمي الغلبة كما بينه العلامة الشنقيطي رحمه الله حيث قال: “وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين: غلبة بالحجة والبيان وهي ثابتة لجميعهم، وغلبة بالسيف والسنان وهي ثابتة بخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله” 3.
وغلبة الحجة والبيان هي الأصل والأساس لكل غلبة وقوة، والمقدمة على الحفاظ على الأجسام والدور والبنيان.
ووجه ذلك أن “للقوة والسلطان أثر في الأبدان، وأثر في الأرواح، وأقوى الأثرين تأثيرا وأظهرهما وسما، وأبقاهما على المدى، ما كان في الأرواح، لأن التسليط على الأبدان يأتي من طريق الرهبة، والرهبة عارض سريع الزوال، أما التسلط على الأرواح فبابه الرغبة، والدافع إليه الاقتناع والاختيار”4.
وللعلماء الحكماء سلطان الأرواح لمكانة عِلمِهم وقوة بيانهم، وغلبة حججِهم المستمدة من النصوص الشرعية، والعقول السليمة الفطرية.
ولذا يجب على أهل العلم القيام بحقيقة العلم علما وعملا وبلاغا وحكمة.
قال العلامة السعدي رحمه الله في حق أهل العلم: “وهم أولى الناس بالقيام بالواجبات الظاهرة والباطنة وترك المحرمات، لما تميزوا به من العلم والمعارف التي لم تحصل لغيرهم، ولأنهم قدوة للناس، والناس مجبولون على الاقتداء بعلمائهم شاءوا أم أبوا في كثير من أمورهم5، ولأنهم يتطرق إليهم من الاعتراض والقوادح عندما يتركون ما يدعو إليه العلم أعظم مما يتطرق إلى غيرهم”6.
لكن ليس كل من صعد المنبر عالما؟!!
ولا كل من اجتمع الناس حوله وأشير إليه بالبنان فاهما؟!!
ولا كل من أزبد وأرعد هو بالحق قائم؟!!
ولا كل من لبس زيّ العلماء هو بقانون العلم حاكم؟!!..
إلى غير ذلك من المعايير المعكوسة التي اتخذها الناس كأساس لمعرفة العلماء، وتعيين الفقهاء..
إنما العالم حقا، والذي تسعد به الأمة صدقا، هو العالم الرباني الذي يقوم بما أنيط به شرعا وعقلا، لا من يتخلف عن ركب الدعوة إلى الله دوما! ويكسل عن الجد والاجتهاد تعلما! ويخوض فيما لا يعنيه تملقا! وينغمس في سفاسف أمور الدنيا تنعما!..
لا عالم السوء الذي يحسن زخرفة الألفاظ -فحسب- ويجيد سبك العبارات، ويبرع في شقشقة الكلام، وهو خواء من الفضائل، عار من الخيرات، غلبت العاطفة الجوفاء على قلبه فنطق بها لسانه، دون تصور لحقيقتها، ولا تأمل في واقعها، ولا تلمح لمآلها.
فيا أهل الخير فينا، ويا أهل العلم بين أظهرنا، هاأنتم تبصرون بأعينكم، وتسمعون بآذانكم، وتدركون بعقولكم ما يحدث من فتن عمياء، وتدخلات نكراء، وتشدق كثير من الدهماء، مما يستوجب منكم كلمة عارف بخطورة البلايا، وما تؤدي إليه الرزايا، حتى يبصر الناس الحقائق كما هي دون عاطفة عاصفة، ولا سكتة من البصيرة خالية، فتطمأن القلوب وتهدأ النفوس ويحيا الناس بالأمن والأمان ويمدوا برحمة الرحيم الرحمن، فلابد أصالة من تجل لدوركم -بضابطه وشرطه- بعلمكم الأثري؛ وتصرفكم النقي؛ فيما يحدث في الخلق حتى شغلوا عن عبادة الحق سبحانه. ولذا كثيرا ما نقرأ في تراجم أهل العلم مثل هذه العبارة: “كثير الاهتمام بأمور الناس”7 وقد قيل قديما: “العلماء مثل الماء حيثما سقطوا نفعوا”8.
وقال العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله: “واجب العالم الديني أن ينشط إلى الهداية كلما نشط الضلال، وأن يسارع إلى نصرة الحق كلما رأى الباطل يصارعه، وأن يحارب البدعة والشر والفساد قبل أن تمد مدها وتبلغ أشدها، وقبل أن يتعوّدها الناس فترسخ جذورها في النفوس، ويعسر اقتلاعها”9.
وفيما يجري من أحداث إذا لم تكن للعلماء كلمتهم يتخذها الناس سراجا منيرا في سواد الجهل وظلمة الفتنة، فسيتركوا المجال للأقلام المستأجرة، ولتوجيهات الصحفيين العارية من العلم الشرعي والنظرة المقاصدية المركزة، ولدعاة التحرر والإنسانية وحقوق الإنسان زعموا الذين لا تسمع منهم -إلا من رحم الله- إلا كلمات جوفاء هنا وهناك وهنالك.. يموهون بها.. ويخاتلون…ويخدعون أنفسهم.. ويلبسون على غيرهم..
فالعلماء هم أهل الفقه والأثر، وأصحاب الاستنباط والنظر.
قال تعالى: “وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً“.
والعلماء هم أهل الثبات والاطمئنان والرسوخ.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله واصفا شيخه ابن تيمية رحمه الله: “وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد منا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض، آتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة” 10.
والعلماء أهل معرفة بعلامات الفتن وبوادر إقبال المحن والإحن.
قال الحسن البصري رحمه الله: “الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل”.
والشاهد والمقصود أن الأمة الإسلامية اليوم تريد من علمائها الأفاضل عموما أن يتنبهوا إلى ما يحيق بها من مكر سيء وأن يبذلوا قصار جهدهم لتقويم أمرها وتصحيح مسارها، وتبصيرها بما يريده الله منها.
فـ”لو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذب عن الحق خوفا من كلام الخلق لكانوا قد أضاعوا كثيرا وخافوا حقيرا”11.
هذا مع التنبيه أن العالم قد يرى بحق السكوت في الفتنة، أو تأخير الكلام إلى حين تنجلي الغمة، مراعاة للمصلحة الراجحة المتحققة لا الموهومة، فيكون كلامه إذا تكلم بعلم، وسكوته إذا سكت بحلم، وكلا الأمرين من مشكاة الحكمة والفهم و”ضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤدِ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية”12.
وقد بين ذلك ابن تيمية رحمه الله بيانا شافيا حيث قال:” فالعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يبيح وتارة يسكت عن الأمر أو النهي أو الإباحة كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح وعند التعارض يرجح الراجح -كما تقدم- بحسب الإمكان فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن: إما لجهله وإما لظلمه؛ ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه؛ كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر.
فالعالم في البيان والبلاغ كذلك؛ قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما من بيانه” 13.
وفي الختام: ليس قصدي بهذه المقالة توجيه العلماء فإنهم أعرف بهذا الذي رقمته فيها، فهم أشياخنا ونحن تلاميذهم، وهم والدونا ونحن أبنائهم، فالأبوة الدينية أولى من الأبوة الطينية، وإنما الغرض التذكير بمسألة شرعية، والتقرير لحقيقة علمية، والموفق الله رب البرية.
1- جامع بيان العلم 1/194
2- منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله 1/547
3- أضواء البيان 1/353
4- عيون البصائر للعلامة الإبراهيمي رحمه الله 333
5- نعم “الفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها وهذا شأن الفتن” منهاج السنة لابن تيمية رحمه الله 4/ 187.
6- الفتاوي السعدية 460
7- انظر مثلا شذرات الذهب 5/378 عند ترجمة أبي محمد بن قدامة المقدسي رحمه الله
8- جامع بيان العلم 1/257
9- الآثار 4/117
10- الوابل الصيب 67
11- العواصم والقواصم 1/223 لابن الوزير رحمه الله.
12- الموافقات للشاطبي رحمه الله 4/190-191
13- الفتاوي 20/59