البداية كانت من تونس، حيث انتحر الشاب محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسمه، “احتجاجا” على إهانته من قبل رجال الأمن، ثم لحقت تونسَ الجزائرُ ومصر وموريتانيا والمغرب والسعودية، فقد حاول عدد من الناس في هذه الدول الانتحار أيضا على الطريقة “البوعزيزية”، كنوع من الرفض والتمرد على الاستبداد والجور(!!)، وأيضا كصورة معبرة عن مدى الإذلال والتفقير الذي تعانيه مكونات عريضة في المجتمع المسلم.
وقبل أن نواصل هذا الحديث ذا الشجون، لابد من وقفة شرعية مع ذلك السلوك البشع، والتصرف الشنيع الذي يعد من أشد المنكرات، ومن أعظم الكبائر التي توبق مرتكبها في نار جهنم، فقد جاءت النصوص الشرعية بالوعيد الشديد والعقاب الأكيد لمن يعتدي على نفسه أو على غيره بالقتل، فهذا قول الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} (النساء:93)، هذا فيمن قتل غيره، فكيف بمن يقتل نفسه؟!! وقوله سبحانه ناهيا عباده عن قتل أنفسهم ومذكرا لهم بفضله ورحمته: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29).
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ» (البخاري:3463)، فالرجل المذكور في الحديث كان به جرح، ولشدة المعاناة قتل نفسه، فحرم الله عليه الجنة، وفيه رد على من يسمون بالثوريين والمناضلين الذين دافعوا عن البوعزيزي، فقالوا إنه قتل نفسه بسبب المعاناة وقسوة الظروف الاجتماعية.
إننا أمام سيل جارف من السلوكيات الدخيلة الغريبة على حضارتنا، المرفوضة في ديننا، سيل يحمل كل ما في طريقه من الغثاء، ولا يصمد في وجهه إلا من كان على بينة من دينه، ودراية بما يحاك في الداخل والخارج من مؤامرات ترمي إلى النيل مما تبقى من تماسك بين أعضاء جسد الأمة المثخن بالجراح.
والمصيبة أن تتعالى أصوات هنا وهناك مرددة شعرا لواحد ممن قال عنهم الحق سبحانه أنهم في كل واد يهيمون..، فجعلوا قدَر الله يمضي وفق إرادة الشعب!! تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.
المصيبة أن نرى ونسمع من يلقب المنتحر بالشهيد!! بل “منحوا” الشهادة أيضا لكل أولئك الذين لقوا حتفهم في المظاهرات والفوضى التي أعقبت إحراق البوعزيزي لنفسه في تونس ومصر..
فيا ليت شعري، هل قُتِل كل هؤلاء في حرب ضد بني صهيون حتى نحتسبهم عند الله شهداء؟
أم يا ترى سقطوا بنيران قوات الاحتلال بالعراق؟
مهلا أيها الثوار.. فما أبعد طريقتكم عن الإصلاح!
صحيح أن التونسيين والمصريين عانوا لعقود طويلة تحت نير العلمانية المتطرفة، فشعب تونس المسلم لم ينس سنوات الاستبداد والإهانة على يد الهالك بورقيبة، كما لن ينسى جور ابن علي الذي أكمل المهمة القذرة لسلفه بمواصلة التضييق على كل من يحاول الالتزام بشعائر الدين الحنيف، والتمكين في المقابل لكل مظاهر التغريب والفساد والإفساد؛ فيما عانى المصريون سياسة تفقير وتجويع من نظام كاد أن يقول بلسان المقال -بعد أن قال بلسان الحال-: “أنا ومن بعدي الطوفان”، نظام حسني مبارك الذي امتص دماء شعبه حتى تحدثت بعض المصادر عن أن ثروته تقدر بـ 70 مليار دولار!! ثروة تكفي لسداد ديون دولة أو دولتين من أفقر الدول، فيما يقطن بعض المصريين بالمقابر!!!
إنه الفقر الذي كاد أن يكون كفرا، إنه الضغط الذي يولد الانفجار، إنه البؤس والإهانة التي قد تصل بالمرء إلى درجة من اليأس تعمي بصيرته، وتجعل الدنيا سوداء مظلمة في عينيه، حتى لكأنها ليس فيها موضع نقطة من الرحمة أو الخير.
لكن الصحيح أيضا والمؤكد قطعا أن تلك الدرجة من اليأس لا يمكن أن تجد لها طريقا إلى قلب عبد مؤمن بقضاء الله وقدره {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر:56)، وأن تلك الصورة القاتمة لهذه الحياة الدنيا يستحيل أن ترتسم في مخيلة من أيقن بوعد ربه وجزائه للصابرين {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10).
ولسنا هنا -حين نُذَكِّر بالصبر- ممن يعلق المصائب والمآسي على شماعة القضاء والقدر، حتى تنصرف الأنظار والأفهام عن ظلم الظالمين، ولا ممن يحزن على انهيار نظام فاسد أو يأسى على قوم فاسقين، لكننا نريد نهج سبيل المرسلين، وسلوك طريق المؤمنين في التغيير؛ فمتى كان الانتحار وسيلة للتعبير عن رفض الظلم؟
ومتى كانت المظاهرات -في منهج الأنبياء والمرسلين- سبيلا لإصلاح الأمم؟!
لقد سقط النظام التونسي، ثم تبعه نظيره المصري، فكثر اللغط وبرز السؤال الكبير: من التالي؟
لكن السؤال الأهم الذي غفل عنه أو إن شئت فقل تغافل عنه أكثر الناس، هو: ماذا بعد سقوط النظامين بتونس ومصر؟؟
بصيغة أخرى: هل بسقوطهما ينتهي الظلم والاستبداد ليحل محلهما العدل والرخاء؟ أم أننا أمام فوضى بكل ما تعنيه الكلمة؟!!
ألا يذكرنا ما حصل بما “بشرت” به عصابة المحافظين الجدد في الحكومة الأمريكية السابقة في ما سُمِّي بنظرية “الفوضى الخلاقة”؟
ثم إن إطلالة سريعة على قائمة أسماء متزعمي الثورتين تكفي لمعرفة نتيجة هذا الحراك الشعبي غير المنضبط بضوابط الشرع، فقادة الثورتين هم أنصار الدولة المدنية من العلمانيين والليبراليين والشيوعيين، وكل ناعق بقرارات الأمم المتحدة ومواثيق حقوق الإنسان بنكهة غربية، أما حزب النهضة التونسي وتنظيم الإخوان المصري فما نراهما إلا سيلدغان من نفس الجحر مرة أخرى..
أثم إذا ما وقع آمنتم به؟؟
لقد أصبحنا في كل عام على موعد مع مفاجآت مزلزلة تهدد كياننا، وتعصف بقيمنا ومقومات حضارتنا، وما ذلك إلا شيء يسير من الحصاد المرّ الذي جنته الأمة من السياسات العلمانية التي تحارب ثوابت الدين، وتضيق على تجليات الهوية الإسلامية، وتعتم على مختلف مظاهر التدين لحساب ذلك المسخ الثقافي والنكوص الحضاري القادم من الغرب، تحت مسمى الحداثة والحريات الفردية!!!
وما لم يضع من ولاهم الله أمور المسلمين حدا لهذا التردي الأخلاقي والانتكاس القيمي، وقبل ذلك كله الحسم مع كل الانحرافات العقدية، وانتهاك حرمة الدين، وامتهان كرامة الإنسان..، فإننا متجهون -لا محالة- نحو مزيد من الفتن والقلاقل، والسعيد من وُعظ بغيره، والعاقل من يفهم الدرس، ويتجنب الأخطاء التي أهلكت أقرانه..
إن ما حصل ويحصل من تغيرات يتداخل فيها ما هو ثقافي بما هو اقتصادي واجتماعي في المجتمعات الإسلامية، يدل على أن الأمة تشهد تسارعا واضحا باتجاه مزيد من تأزم الأوضاع على كافة المستويات، ولا شك أن المتابع لتلك التحولات يدرك يقينا مدى خطورة المرحلة التي نمر بها في السنوات الأخيرة، وذلك عين ما أخبر به الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- من فتن وأهوال ستحل بالأمة بعد أن تتنكب صراط ربها وتعرض عن منهجه القويم، والمُعَوَّل على الله سبحانه أن يرد بنا إلى دينه ردا جميلا، ثم على علماء الأمة الربانيين، الذين يصدعون بالحق ولا يخافون في تبليغه لومة لائم، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.