مكانة العقل في فكر المدرسة السلفية في المباحث الكلامية (سبب تبني السلفيين الرد على خصومهم بالطريقة العقلية) -4- ذ.طارق حمودي

وأما عن سبب اشتغالهم بالرد العقلي والجدلي على المخالفين؛ بعدما استقر عند المتقدمين اختيار الإمساك عن ذلك لاعتبارات كثيرة؛ فقد روى الدارمي عن عيسى بن يونس أنه قال: (لا تجالسوا الجهمية، وبينوا للناس أمرهم كي يعرفوهم فيحذروهم) .
فكان الدافع لذلك كما هو واضح الخوف على الناس من تلبيسات أهل البدع وتدليساتهم.
وقال الإمام أحمد: (قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بد لنا أن ندفع ذلك ونبين من أمره ما ينتفي عنه ما قالوه) ذكره ابن مفلح في الآداب الشرعية محتجا به على أن ما تمسك به الأولون من قول أحمد في المنع منسوخ، وذكر أن الإمام أحمد احتج بقوله تعالى (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
قال الدرامي في الرد على الجهمية (ص:8): (فحين رأينا ذلك منهم وفطنا لمذهبهم وما يقصدون إليه من الكفر وإبطال الكتب والرسل ونفي الكلام والعلم والأمر عن الله تعالى رأينا…) وقال: (وقد كان من مضى من السلف يكرهون الخوض في هذا وما أشبهه، وقد كانوا رزقوا العافية منهم، وابتلينا بهم عند دروس الإسلام وذهاب العلماء فلم نجد بدا من أن نرد ما أتوا به من الباطل بالحق).
وقال في النقض بعد بيان خطورة كلام الجهمية وخطورة حكايته: (فمن أجل ذلك كرهنا الخوض فيه، وإذاعة نقائضه حتى أذاعها المعارض فيكم، وبثها بين أظهركم، فخشينا أنه لا يسعنا إلا الإنكار على من بثها، ودعا الناس إليها منافحة عن الله، وتثبيتا لصفاته العلى ولأسمائه الحسنى ودعاء إلى الطريقة المثلى، ومحاماة عن ضعفاء الناس وأهل الغفلة من النساء والصبيان أن يضلوا بها ويفتتنوا إذا بثها فيهم رجل كان يشير إليه بعضهم بشيء من فقه وبصر، ولا يفطنون لعثراته إن هو عثر، فيكونوا من أخواتها منه على حذر) .
وقال ابن قتيبة: (كما رأيت إعراض أهل النظر عن الكلام في هذا الشأن منذ وقع، وتركهم تلقيه بالدواء حين بدأ.. إلى أن استحكم أساسه.. لم أر لنفسي عذرا في ترك ما أوجبه الله علي بما وهب من فضل المعرفة في أمر استفحل بأن قصر مقصر، فتكلفت بمبلغ علمي وطاقتي ما رجوت أن يقضي بعض الحق عني لعل الله ينفع به فإنه بما شاء نفع) .
ولعله من المناسب التنبيه هنا على أن المنهج العقلي في التوحيد كان حاضرا عند نظار المدرسة السلفية قديما، وقد نقلت مناظراتهم مع الملاحدة وأشباههم في كتب التاريخ المسندة وغير المسندة، وكانوا فيها يناظرون بالحجة العقلية من لا يقبل غيرها ولا يفهم سواها، أو لا يؤمن بحجية بعض مراتب السنة في التوحيد أحيانا، ومن ذلك قول الشافعي لبشر المريسي حين سأله عن دليل كون الله واحدا: (يا بشر، ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم، إلا أنه لابد لي أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت…) .

– أمثلة لمن استعمل الحجاج العقلي والجدلي من أئمة ومنظري الفكر السلفي
– الإمام أحمد بن حنبل(241هـ):
وهو أحد المنظرين الكبار للفكر السلفي ويجعله كثير من الدارسين ممثلا للمرحلة السلفية الأولى التي أظهر فيها المنتمون لهذه المدرسة قدرة على المواجهة الجدلية والمناظرة العقلية والخوض في السجالات الفكرية، والثانية في عهد ابن تيمية رحمه الله.
هل كان الإمام أحمد يستعمل العقل في الاحتجاجات الكلامية؟
لعل الجواب على هذا سيكون مفاجأة لكثير من الباحثين لا سيما وأنه اشتهر عنه أنه نصي وحرفي لا يخرج عن الاستدلال بالحجج القرآنية والنبوية.
لقد أظهر الإمام أحمد رحمه الله قدرة لا ينبغي استغرابها في النقد العقلي الجدلي للمذاهب. وقد بدا ذلك في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) فإنه استعمل فيه كثيرا من الحجج العقلية وفق المنهج القرآني في الحجاج، وحمل فيها فكره بل وأدلته القرآنية وركبها تركيبا قياسيا، وقد انتبه لذلك كثير من أهل العلم قديما منهم حنبليان.. وهما ابن مفلح وأبو يعلى رحمهما الله.
قال أبو يعلى:
(وقد احتج أحمد رحمه الله بدلائل العقول في مواضع فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية) .
وقال ابن مفلح:
(وقد صنف أحمد رحمه الله كتبا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره واحتج فيه بدلائل العقول) .

– عثمان بن سعيد الدارمي (280هـ):
قال محمد محمود أبو رحيم (ص74): (من خلال دراستي للجوانب العقدية التي ناقشها الإمام الدارمي رحمه الله وجدت أن منهجه في الدر على شبه المخالفين يقوم على عدة أسس:
الأول: التعرض لأدلتهم النقلية والعقلية واللغوية ومناقشتها وردها بالمنقول والمعقول، وهذا واضح في كل المسائل التي ناقشها) .
– ابن تيمية (728هـ):
اعتماده على الأدلة العقلية والحجج الجدلية أشهر من نار على جبل، بل لعله المقدم في هذا على الإطلاق، وكتبه مستفيضة بهذا، فقد ردَّ على الفلاسفة في در الارتياب وناقشهم في مفهوم العقل الفعال، وناقش الأشاعرة في تقديمهم العقل على النقل، وناقش المعتزلة في تقديسهم العقل بإطلاق، وكتابه (درء تعارض العقل والنقل) كما يقول الدكتور (مصطفى حلمي) : (يكفي ذكر عنوانه لبيان القضية المطروحة للبحث) .
– ابن أبي العز الحنفي (792هـ):
كان لابن أبي العز الحنفي نصيبه من الاحتجاجات العقلية في كتابه (شرح الطحاوية) وقد سار فيه على طريقة ابن تيمية وابن القيم وشيخه ابن كثير دون أن يحيل على أحد منهم لأسباب سياسية معروفة.
يقول الدكتور عبد الله الحافي:
(استدلال ابن أبي العز الحنفي بالعقل وبالفطرة في مسائل أصول الدين لا يتجاوز ما تقدم من أنهما دليلان يشهدان بصحة ما جاء به السمع، وهذا عنده لا يتجاوز الأوجه الآتية:
الوجه الأول: أن يبين أن العقل الصريح موافق لما دل عليه النقل الصحيح كما في مسألة الكلام -كلام الله تعالى- وغيرها، فإنه أثبت بالعقل أن الذي يتكلم أفضل من الذي لا يتكلم.
الوجه الثاني: أن يبطل دعوى مخالفة العقل لما دل عليه النقل، كما في مسألة الرؤية، فإن النافين قد استدلوا بالعقل على عدم جواز الرؤية، لأنه لا يلزم من ذلك التحيز والجسمية وإثبات المكان..إلخ مما يمنعون لأجله الرؤية، وقد أثبت أن موافقة العقل لما ذهب إليه السلف) .

– جمال الدين القاسمي (1332هـ)
لعل أهم ما يميز العلامة جمال الدين القاسمي هو القدرة الكبير التي كان يملكها على صياغة الأدلة العقلية خصوصا في توحيد الله تعالى، فقد أفرد كتابا خاصا في الرد على منكري وجود الله تعالى كما هي قصة تأليفه للكتاب، وعرض فيها جملة من الأدلة العقلية والنقلية معا على وجود الله سبحانه وتعالى خالقا ومالكا ومدبرا .
قال الأستاذ محمود مهدي استنبولي: (ذكر فيه عشرات الأدلة العقلية على وجود الله، ودفع الشبهة التي ترد على الدين) .
——————————
1- نقض عثمان بن سعيد الدارمي على بشر المريسي (ص5) بإسناد صحيح
2- عقائد السلف (ص497-468)
3-(ص4-5)
4- الاختلاف في اللفظ (ص225)
5- رواه أبو نعيم في الحلية (9/80/81) ونقله البيهقي في مناقب الشافعي (1/399/تحقيق أحمد صقر) مبوبا له بقوله : (باب ما يؤثر عنه رحمه الله في دلائل التوحيد )
6- وقد كنت سألت أستاذنا الفاضل الدكتور جمال علال البختي : هل كان يعتقد المعتزلة على رأسهم المأمون أن المدرسة السلفية المتمثلة في الإمام أحمد لم تكن مؤهلة لخوض معارك جدلية ضد ما كان يهدد الدولة السنية العباسية من زحف للفكر الفلسفي الباطني الشيعي ؟
فأجاب حفظه الله بأن المتأمل في كتابات الإمام أحمد من أمثال (الرد على الزنادقة والجهمية) يلمس أسلوبا جدليا واضحا وقدرة على المحاججة العقلية مع التنبيه إلى أن منهجه الحواري كان مستمدا أساسا من طريقة القرآن وكذلك كان الأمر بالنسبة لابن تيمية.
7- العدة في أصول الفقه (4/1273/باب الكلام في القياس)
8- الآداب الشرعية ()
9- في رسالته لنيل الماجستير : (الإمام عثمان بن سعيد الدارمي ودفاعه عن عقيدة السلف/ ص74)
10- السلفية والحضارة (ص56)
11-منهج الإمام ابن أبي العز الحنفي وآراؤه في العقيدة من خلال شرحه للطحاوية (ص47). وقد أخبرني بعض إخواننا من الدارسين المغاربة في الجامعة الإسلامية أنه أثبت بالتتبع في رسالة ماجيستير أو دكتوراه – لست أتذكر – أن جل ما في شرح الطحاوية هو نقل عن ابن تيمية وابن القيم وابن كثير دون عزو بسبب المضايقات التي كان يتعرض له أتباع ابن تيمية رحم الله الجميع
12- شيخ الشام جمال الدين القاسمي (ص59/المكتب الإسلامي) مع التنبيه إلى أن القاسمي انتقد في مسألة تعارض النقل والعقل!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *