مدرسة المستقبل د.الصمدي*: يجب أن تتحول المدرسة من تلقين المعرفة إلى فضاء متعدد الخدمات التربوية والثقافية المندمجة حاوره: ذ.الحسين باروش

 

ما المقصود بالنموذج التقليدي للمدرسة؟

المقصود به تلك البنية الإدارية والبيداغوجية التي ظلت ثابتة بأساتذتها، بإدارتها، بنظام التقييم فيها، ذلك النموذج الذي تتلمذنا فيه نهاية ستينيات القرن الماضي، ولا زال الجيل الحالي يدرس في نفس النموذج ونفس البنية،مما يعني أن هناك استقرارا وجمودا في النموذج التقليدي للمدرسة رغم التحولات الكبرى التي طرأت في المحيط وفي التواصل وفي طبيعة الأجيال المتعاقبة المستهدفة بالتربية والتعليم والتكوين وخاصة في عصر التكنولوجيا .حيث دخل هذا النموذج في مرحلة أزمة لا تنفع معها الإصلاحات الجزئية التي تطاله من الداخل، وتبرز الحاجة الماسة إلى إرساء نموذج جديد يستجيب لهذه التحديات والتحولات ويجيب عن الأسئلة والانتظارات.

ما هي التحولات التي أثرت في واقع المدرسة وأدخلت النموذج التقليدي في ما سميتموه بالأزمة؟

يمكن إجمال التحولات الكبرى في ما يلي:

أ- تحدي التحول القيمي: فالكل أصبح يقر بوجود تحول في منظومة القيم وتجلياتها في مختلف المجالات متأثرة بالأسباب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والانفجار التكنولوجي الذي فتح العالم وهدم كل الحدود فأصبح الغرب فينا ونحن في الغرب، وأصبح العالم قرية صغيرة تدار بواسطة شبكة أوهن من بيت العنكبوت.

وفي هذا السياق تقلص دور المدرسة في بناء منظومة القيم، وكذا في تقديم المعارف مما يعني أننا دخلنا عصر التحول في وظيفة المدرسةوفي هذا السياق يمكن فهم السؤال الذي أصبح مطروحا لدى المهتمين عموما ولدى المتعلمين على وجه الخصوص حول الغاية من ارتياد مقاعد الدراسة (وظيفة المدرسة) بعد أن انتقل دور ها بالإضافة إلى المهننة من تكوين هوية وشخصية المتعلم ومنظومته القيمية الدينية والوطنية وانفتاحه الكوني، إلى اختزال دورها في المهننة الصرفة وأصبح مسالك التعليم والتكوين التي لا ترتبط بسوق الشغل محط سؤال حول جدواها وجاذبيتها والحاجة إليها، علما بأن المهننة المتمثلة في إتقان مهارات محددة تشكل جزءا من كينونة المتعلم التي توجد فيها أبعاد شخصية واجتماعية وتنموية تستهدف الارتقاء الفردي والاجتماعي بالإضافة إلى الوظيفي والمهني.

ب- تحدي الانفجار المعلوماتي: ففي النموذج التقليدي كان المدرس كان هو المالك للمعرفة نظرا لقلة مصادر المعلومات، وكان يملك تبعا لذلك سلطة تقديرية معينة، وله حضور متميز في نفوس الناشئة، اليوم هناك تنوع كبير في مصادر المعلومات، مع صعوبة كبيرة في الحصول على المعرفة العالمة وسط هذا الكم الهائل من المعلومات التي تصل إلى حد التناقض والتضارب، ولن يدرك هذا التحول من المدرسين إلا جلينا الذي عاش فترة ما قبل الثورة الرقمية وما بعدهاإننا نعيش تحولا عميقا بخصوص الانفجار المعلوماتي، وكما تعلمون فهناك الخبر وهناك المعلومة التي هي جزء من الخبر ثم الفكرة وهي التي تكون مسندة إلى برهان أو دليل يسندها، ثم المعرفة والتي تنتج عن تراكم أفكار منظمة في سياق معين، وهناك الإبداع الذي يشكل الإضافة ويضمن الاستمرار في توليد الأفكار والمعارف،وفي ظل الثورة الرقمية اختلطت هذه الحلقات فأصبح الخبر هو الشائع الذي قد يحمل جزءا من الحقيقة، هو مصدرا التعلم، وهذا الإشكال يواجهه المدرسون داخل الفصول الدراسية، فاختلطت المفاهيم واشتبكت، وأصبح البحث عن المعرفة ضمن هذا الكم الهائل من المعلومات أمرا صعبا وعسيرا، وتحول دور المدرس من تبليغ المعلومة الصحيحة المستقاة من مصادرها العلمية الموثوقة وتحويلها عن طريق التراكم إلى معرفة، إلى تفحص وتدقيق المعلومات التي تسبح في الفضاء المفتوح والتي يلتقطها التلاميذ فتشكل ذهنياتهم وتصوراتهم قبل الدخول إلى الفصل الدراسي.

ج- تحدي الفضاء التعليمي: بعد حديثنا عن الدور التكنولوجيا في نقل المعلومة، يمكن أن نتحدث في هذا الشق الثالث من التحديات عن دورها في الاتصال والتواصل ونقل المتعلم من الفضاء الواقعي الواسع إلى الفضاء الاقتراضي الضيق، حيث أخذت التكنولوجيا الإنسان رهينة في سجنها وأصبح يتجول داخلها، في الوقت الذي كان ينتظر من التكنولوجيا أن تفتح الإنسان على الواقع إلا أنها أدت إلى انطوائه على ذاته وسباحته في فضائه الضيق الذي صنعه لنفسه عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وقطعت حتى أواصر تواصله العائلي المباشر. فأصبح يميل إلى العزلة، ويتعب حين يخرج من الافتراضي إلى الواقعي والذي تعد المدرسة جزء منه، وينتظر أول فرصة للعودة إلى الافتراضي، في الوقت الذي لا زال النموذج التقليدي للمدرسة يحتفظ بنفس البنيات الإدارية والبيداغوجية (الإدارة، الأستاذ، المدرسة، الفصل الدراسي، المواد الدراسية المتعددة الامتحان، النقطة. ثقل المناهج والزمن الدراسي) مما يجعل منها فضاء مملا وغير جذاب بالنسبة للمتعلمين، مما يهدد بتكريس مظاهر العزوف الدراسي والعنف المدرسي، وتفشي مظاهر الغش في الامتحانات، وتصاعد حالات التوتر في العلاقات داخل هذا الفضاء، وذلك بسبب عدم التلاؤم بين فضاء النموذج التعليمي التقليدي وواقع ومتطلبات الفئة المستهدفة بالعملية التعليمية التعلمية والطرق والوسائل المفضلة لتواصلها وتتلاءم مع خصوصياتها النفسية والادراكية وأنماط التعلم الحديثة التي تتطلبها.

إذا كانت هذه هي معالم التشخيص الكبرى فما هي مجالات التدخل من أجل بنا نموذج جديد، وماهي معالم هذا النموذج نموذج؟

المجال الأول: الذي ينبغي مراجعته وبناء تصور جديد بشأنه هو مقاصد المنهاج التعليمي أو ما نسميه بمواصفات التلميذ الحاصل على الباكالوريا في 2030 في ضوء هذه التحولات الاقتصادية، والاجتماعية، والتكنولوجية.. مع مراجعة شاملة للبرامج في ضوء ذلك.

وقد حاولنا في اللجنة متعدد التخصصات التي كلفت من طرف وزارة التربية الوطنية بإعداد الكتاب الأبيض للبرامج والمناهج سنة/2001، أن نحدد مواصفات الخريج في أفق 2010 واليوم نحن في حاجة إلى كتاب أبيض جديد للبرامج والمناهج يحدد مواصفات جديدة للخريج، ويعيد النظر في الزمن المدرسي الطويل في بنية الأسلاك التعليمية (14 سنة للحصول على الباكالوريا من الأولي إلى الثانوي)، وكذا في المواد الدراسية التي ينبغي إعادة النظر في عددها وتسمياتها لتتحول من منطق المواد الدراسية المنعزلة عن بعضها إلى وحدات مندمجة ذات طابع قيمي واجتماعي أو لغوي أو إنساني أو تقني أو رياضي، كما تأخذ بعين الاعتبار أوجه التكامل بين المعارف، المهارات، والقيم، في بناء المناهج التعليمية ومحتوياتها،وقد نص القانون الإطار 51-17 على إحداث اللجنة الدائمة للبرامج والمناهج والتي أوكل إليها هذه المهمة ذات الصلة بالتقييم والمراجعة والتكييف المستمر.

المجال الثاني: تكوين المدرسين وفق الأدوار الجديدة، فمدرس اليوم لم يعد المصدر الرئيس للمعرفة كما كان في السابق بفعل التطورات البيداغوجية والتكنولوجية الهائلة التي حدثث منذ بداية القرن/فاختلفت تبعا لذلك أدواره وتغيرت ليتحول إلى مدبر للمعرفة ومنظم للعملية التربوية وهذا يتطلب إلى جانب التكوين المعرفي توفر المدرسين على كفايات جديدة تكنولوجية وتواصلية وديداكتيكية، وفي هذا السياق أطلقت وزارة التربية الوطنية سنة 2018 برنامجا وطنيا تحت اسم (مدرس المستقبل) لتكوين 200 ألف مدرسة في أفق 2028، واشتغلت بعمق على عدة جديدة للتكوين تأخذ بعين الاعتبار كل هذه الكفايات.

المجال الثالث: بنية جديدة للمدرسة أو للفضاء التربوي، الذي ينبغي أن يتحول من مدرسة لتلقين المعرفة إلى فضاء متعدد الخدمات التربوية والثقافية المندمجة بالتعاون مع قطاعات حكومية أخرى في الثقافة والشبيبة والرياضة والشؤون الاجتماعية والطفولة مع البحث عن صيغة مندمجة للتدبير والتسيير.

فإذا نظرنا إلى المجهودات التي تبذلها السلطات الترابية ومندوبيات القطاعات الحكومية للحصول على بقع أرضية لبناء خدمات القرب التربوية والرياضية والثقافية، فإننا تقف على صعوبات كبيرة لتحقيق هذا الهدف خاصة في الأحياء التي لم تخضع لتصميم تهيئة استشرافي.

فالمدير الإقليمي للتعليم يبحث عن بقعة أرضية لبناء مؤسسة تعليمية، و في نفس الوقت نجد بعض المؤسسات التعليمية مبنية على مساحة إجمالية قد لا تتجاوز 2000 متر مربع وإلى جانبها هكتارات من الأراضي الفارغة تابعة لنفس المؤسسة مسيجة بصور كبير يحتاج إلى كلفة مالية كبيرة لصيانتها وحمايتها، وتجد بالمقابل مندوب الثقافة يبحث عن بقعة أرضية في نفس الحي لينشأ مكتبة ودار الثقافة، ومندوب الشباب والرياضة يبحث عن قطعة أرضية مماثلة لبناء ملعب رياضي للقرب، وهذه في تقديري كلها وظائف تربوية، لذلك ينبغي أن ننتقل من المدرسة المعزولة عن الثقافة، المعزولة عن الرياضة إلى مركب تربوي متعدد الخدمات. هذه المدرسة الجديدة التي يمكن أن يجد الطالب ذاته بمختلف حاجياتها التربوية والثقافية والرياضية والتواصلية، ثم علينا أن نعيد الاعتبار للحياة المدرسية التي تعتبر مشتلا للمواهب وتطوير المهارات والقدرات.

المجال الرابع: وسائط التعلم أو ما كان يعرف بالوسائل التعلمية المساعدة، فقد آن الأوان لإعادة النظر في الكتاب المدرسي الورقي ليصبح وسيطا تعليميا تفاعليا، إذ لا يعقل أن ندرس تلميذ القرن 21 بنفس الكتاب التقليدي الذي درس به تلاميذ القرن الماضي، ويمكن استثمار ما تتوفر عليه بلادنا من خبرات وكفاءات مهمة في مجال هندسة التربية والتكوين، وفي مجال إدماج التكنولوجيات الحديثة في التعليم، وكذا في تطوير أنماط التعلم التفاعلي الناشط في مختلف التخصصات، كما يمكن استثمار تجارب دول كثيرة في هذا المجال،
بالإضافة إلى ذلك ينبغي استثمار التجارب التي راكمها المغرب في التعليم عن بعد أثناء الجائحة لإخراج مشروع المدرسة المغربية الافتراضية والجامعة المغربية الافتراضية إلى حيز الوجود، مع اعتماد خيار التعليم المزدوج حضوري وعن بعد كخيار دائم ومستقر بغض النظر عن ظروف الأزمات والجائحة.

المجال الخامس بناء قدرات الخريج على التكيف مع مستجدات المحيط السوسيواقتصادي وحاجياته عوض تكوينه على مهن محددة قد يتجاوزها الزمن، فدور المدرسة يتحدد في تزويد الخريجين بكفايات عرضانية يحتاجونها في حياتهم وتمنحهم القدرة على التكيف، مع التحولات التي يعرفها عالم المهن لأن الخريج الحاصل على دبلوم محدد في التكوين المهني في 2021 سيشتغل به على المدى المتوسط، ليجد نفسه بعد بضع سنوات عاجزا عن الولوج إلى المهن الجديدة بفعل التطور التكنولوجي والتحول في مجال المقاولة وما إلى ذلك وبالتالي يسقط في بطالة خطيرة وهي بطالة ما بعد المهنة أو البطالة بعد الشغل وهي أخطر بكثير من البطالة الأولى اعتبارا للالتزامات والتحملات العائلية وغيرها، وبالتالي فالتعليم والتكوين يجب أن يركز على تنمية الكفايات العرضانية مع بناء القدرة على التكيف، وهذا يتطلب فتح فرص لإمكانية العودة إلى المدرسة لتجديد الكفايات واكتساب المستجدات عن طريق برامج التكوين المستمر بشراكة مع المقاولة.

تلكم بعض الأفكار ذات الصلة بالنموذج الجديد للمدرسة تشكل أولويات ملحة ضمن منظور واسع ذو أبعاد متعددة لإحداث التحول المطلوب في المدرسة المغربية حتى تستجيب لحاجيات المستقبل.

وبالعودة إلى الرؤية الاستراتيجية 2015-2030 وكذا الرافعات التي ركز عليها النموذج التنموي الجديد نجد هذه الخيارات والتوجهات واردة فيهما بوضوح، ونحن الآن بصدد تحويلها إلى برامج تنفيذية وفق رؤية مندمجة لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي بعد أن تم مأسستها في مقتضيات القانون الإطار 51-17 قطع مع سياسة الإصلاح وإصلاح الإصلاح، طبقا لتوجيهات جلالة الملك حفظه الله.

ـــــــــــــــــــــــــ

*كاتب دولة سابق وخبير تربوي.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *