عجبا لمن يبلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحا صريحا ثم يرده بحجج واهية ويقدم عليه جملة من المعارضات بلسان الحال أو المقال مع أن أهل الإسلام قد أجمعوا على أن من استبانت له سنة رسو ل الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد أو رأيه كائنا من كان.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ”.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير الآية: “ومعناها ظاهر أي: لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله في ما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا, ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل.
.. وقوله تعالى لا تقدموا بين يدي الله أصل في ترك التعرض لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب اتباعه والاقتداء به” الجامع لأحكام القرآن.
وعليه كان من دأب السلف الصالح أنهم يقابلون من عارض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بنوع رأي ونحوه بالهجران أو التعزير وما أشبه.
ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الها عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها, قال: فقال بلال بن عبد الله: والله لنمنعهن قال: فأقبل عليه عبد الله, فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط, وقال: أخبِرك عن رسول الله صلى الهن عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن!”
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم عند هذا الحديث: “وفيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه”.
ومن ثم فالواجب الخضوع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد لها، وعدم مقابلتها بمعارض من المعارضات التي على كثرتها لا تخرج على أربعة سارية في الناس وهي المسماة: المعقول, والقياس, والذوق, والسياسة. انظر (مدارج السالكين عند منزلة التواضع).
فمن الناس -عياذا بالله- من يعارضون السنة بمعقولاتهم الفاسدة ويقولون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض, وإما عزل تأويل.
هذا مع أن العقول محدودة كما يُعلم ذلك بآثارها, فكيف تقدم على الوحي وتلوى أعناق نصوصه أو تهمل.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فحق على كل أحد بدل جهده واستطاعته في معرفة ما جاء به (أي النبي عليه الصلاة والسلام) وطاعته إذ هذا طريق النجاة من العذاب الأليم والسعادة في دار النعيم, والطريق إلى ذلك الرواية والنقل إذ لا يكفي من ذلك مجرد العقل بل كما أن نور العين لا يرى إلا مع ظهور نور قدامه، فكذلك نور العقل لا يهتدي إلا إذا طلعت عليه شمس الرسالة” الفتاوي 1/6.
ومن الناس -عياذا بالله- من إذا تعارضت عندهم النصوص مع القياس والرأي قالوا: نقدم القياس على النص ولم نلتفت إليه وما علم هؤلاء أن القياس نوع من الإجتهاد الذي يقبل الخطأ والصواب فكيف يقدم على النص من السنة والكتاب, ولأجله قال العلماء: لا اجتهاد مع النص.
قال ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله في معرض الكلام عما أجمعت عليه الأمة: “التسليم للسنن لا تعارض برأي ولا تدافع بقياس وما تأولها منها السلف الصالح تأولناه وما عملوا به عملناه, وما تركوه تركناه.. وكل ما قدمنا ذكره فهو قول أهل السنة.. وكله قول مالك” (الجامع له 117).
ومن الناس -عياذا بالله- من إذا تعارض عندهم أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع الذوق والحال قالوا: نقدم الذوق والحال ولم يعبئوا بالأمر، وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن الذوق أو الحال محكوم عليه لا حاكم ثم كيف يترك أمر الدين إلى أذواق الناس ومواجيدهم!
قال ابن القيم رحمه الله في معرض كلامه عمن يقدم الذوق على حكم الله ورسوله: “.. فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة, حيث جعلوه حاكما فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع, وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محك الحق والباطل فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص وحكَّموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم” (المدارج 1/397).
ومن الناس عياذا بالله من إذا تعارض عندهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم والسياسة قدموا السياسة, ولم يلتفتوا إلى حكم السنة وهذا عين فساد القلب والقصد.
يقول ابن القيم رحمه الله: “والتحقق بإياك نعبد وإياك نستعين علما ومعرفة وعملا وحالا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد, فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل, فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسدا, وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته: من …أصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل, فإذا جاء الحق معارضا في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم” (المدارج 1/50).