الإحتياط كل الإحتياط في موافقة السنة

يغلو بعض الناس في الدين بتجاوزهم لِما حده الله سبحانه, ولما بيَّنَه النبي صلى الله عليه وسلم، ولِما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم, حتى أخرجهم ذلك الحال إلى حد الوسوسة كل ذلك تحت غطاء الحرص على التدين والاحتياط للدين، وما علموا أن أمر الاحتياط في الدين الذي دلت عليه جملة من الأحاديث الصحيحة كمثل قوله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”, وكمثل قوله: “الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس”.
ليس القصد منها الاحتياط المخرج عن السنة إلى البدعة, وإنما مجالها في حالة ما إذا اشتبه الأمر على الشخص هل هو حق أم باطل، وهل هو حلال أو حرام فيحتاط لدينه آنذاك.
قال ابن القيم رحمه الله: “فإن الشبهات ما يشتبه فيه الحق بالباطل والحلال بالحرام على وجه لا يكون فيه دليل على أحد الجانبين, أو تتعارض الأمارتان عنده, فلا تترجح في ظنه إحداهما فيشتبه عليه هذا بهذا فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك المشتبه والعدول إلى الواضح الجلي” إغاثة اللهفان 7.
وبناء على تلك الأحاديث قرر العلماء رحمهم الله تعالى قاعدة: “الخروج من الخلاف احتياطا للدين”، أو كما سماها بعضهم قاعدة: “مراعاة الخلاف”.
فهذه الأخيرة بدورها فهمت على غير المقصود منها عند المحققين من أهل العلم فوسع البعض دائرتها حتى خرجوا من اليسر إلى الشدة والوسوسة, ومن السنة إلى البدعة, على أنه إذا “كان مذهب المخالف في غاية الضعف والبعد عن الصواب فلا نظر إليه ولا التفات عليه” قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1/215 بتصرف.
ومن ثم فضابط القاعدة أن يكون مأخذ المخالف قويا ومذهبه محتملا من جهة الأدلة الشرعية والقواعد المرعية.
قال الإمام القرطبي رحمه الله في معرض ذلك: “لذلك راعى مالك الخلاف, وتوهم بعض أصحابه أنه يراعي صورة الخلاف وهو جهل أو عدم إنصاف, وكيف هذا وهو لم يراع كل خلاف وإنما راعى خلافا لشدة قوته” نقله عنه الزركشي في البحر المحيط 6/265.
ومن أمثلة(1) الخروج من الخلاف: ما جاء عند تعرض كتب المالكية لكراهة البسملة في الصلاة: “قال القرافي رحمه الله: وكثير من المالكية قالوا: الورع أن يبسمل المصلي أول الفاتحة للخروج من خلاف من يرى الوجوب، وكان المازري يبسمل في أول الفاتحة سرا في صلاة الفرض, فلما سئل عن عمله هذا قال تلك الكلمة الحكيمة: مذهب مالك من يبسمل لا تبطل صلاته ومذهب الشافعي من لم يبسمل بطلت صلاته، وصلاة متفق عليها خير من صلاة قال أحدهما ببطلانها”. نقلا عن كتاب ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين 187-188.
وعليه فما أعظم ما قرره ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان 170-171 حيث قال: “وينبغي أن يعلم أن الاحتياط الذي ينفع صاحبه ويثيبه الله عليه: الاحتياط في موافقة السنة وترك مخالفتها, فالاحتياط كل الاحتياط في ذلك, وإلا فما احتاط لنفسه من خرج عن السنة, بل ترك حقيقة الاحتياط في ذلك.
..قال شيخنا: والاحتياط حسن, ما لم يُفْضِ بصاحبه إلى مخالفة السنة, فإذا أفضى إلى ذلك فالاحتياط ترك هذا الاحتياط”.
وقال رحمه الله في كتابه الروح: “اتباع السنة وما كان عليه رسول الله وأصحابه من غير غلو ومجاوزة ولا تقصير ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه الله ورسوله وأما الوسوسة فهي ابتداع ما لم تأت به السنة ولم يفعله رسول الله ولا أحد من الصحابة زاعما أنه يصل بذلك إلى تحصيل المشروع وضبطه كمن يحتاط بزعمه ويغسل أعضاءه في الوضوء فوق الثلاثة، فيسرف في صب الماء في وضوئه وغسله، ويصرح بالتلفظ بنية الصلاة مرارا أو مرة واحدة، ويغسل ثيابه مما لا يتيقن نجاسته احتياطا، ويرغب عن الصلاة في نعله احتياطا، إلى أضعاف أضعاف هذا مما اتخذه الموسوسون دينا، وزعموا أنه احتياط، وقد كان الاحتياط باتباع هدي رسول الله، وما كان عليه أولى بهم، فإنه الاحتياط الذي مَن خرج عنه فقد فارق الاحتياط وعدل عن سواء الصراط والاحتياط كل الاحتياط الخروج عن خلاف السنة ولو خالفْت أكثر أهل الأرض بل كلهم”.
قلت: وبناء على هذا التفصيل في قضية الاحتياط تفهم كلمة الليث ابن سعد رحمه الله حيث قال:” إذا جاء الاختلاف أخذنا فيه بالأحوط” جامع العلم 2/906, فنتبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1): وهذا المثال القصد منه إيضاح صورة القاعدة وإلا فالمسألة المطروحة فيه ظهر فيها الصواب، ومن ثم فكلام بعض المالكية حولها هو حالة خاصة, وهو قول له ظروفه وحيثياته العلمية فتنبه، ولا تعجل لأن ذكرنا لذلك من باب التمثيل لا غير, والمثال لا يناقش في مثل هذه المجالات كما يقول أهل العلم انظر آداب البحث والمناظرة للعلامة الشنقيطي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *