من القواعد التي اشتهرت عند الفقهاء وجرت على ألسنة العلماء قاعدة “من لم يكفر الكافر فهو كافر”، إلا أن الجهل السافر، والفهم القاصر في استعمالها كان سببا في أن كثيرا من الناس قد كفَّروا من يخالفهم مطلقا، وهذا من عيوب أهل البدع والأهواء.
قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما نقله شيخ الإسلام رحمه الله في منهاج السنة النبوية 5/251: “لأن أتكلم في علم يقال لي فيه: أخطأت أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه: كفرت”(1) ثم علق شيخ الإسلام رحمه الله بقوله:
“فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا (2)، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون”، وانظر “الرد على البكري” 257.
والواقع في خصوص تلكم القاعدة أنه لم يضبط معناها عند كثير ممن استعملها، فلم يتصوروا حقيقتها تصورا صحيحا، ولم يحددوا مجالاها، ولم ينزلوها على فهم السلف الصالح والأئمة الأعلام وعلى من يجب تطبيقها، بل فهموها على إطلاقها، وأسقطوها على عمومها، فضلوا وأضلوا بل كفَّروا بغير حق.
مع أنه مما تقتضيه قواعد العلم والعدل -معا- أن لا تؤخذ قاعدة من قواعد العلماء والفقهاء على عمومها، ولا تفهم على إطلاقها، إلا بعد النظر إلى تفسيرهم لها أو مراجعة ما تقتضيه أصولهم تحقيقا وعدلا، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم، وما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبيحة” الصارم المسلول 1/287.
صحة القاعدة جملة، وتقرير أهل العلم لها
عدم تكفير من تحقق كفره شرعا -كما سيأتي إيضاح صور ذلك- حقيقته التكذيب بخبر الله تعالى، وخبر رسوله عليه الصلاة والسلام، وجحد لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كفر صراح لا خُلفَ فيه بين العلماء، كل ذلك مصداقا لقوله تعالى: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}، وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}.
قال الناظم:
من لم يكفر الكفار كافر *** أما عصاتنا فالرب غافر.
وقال آخر:
من شك أو أقر نهج المشركين *** أو لم يكفرهم فبالكفر قمين.
وقد نقل القاضي عياض المالكي رحمه الله الإجماع على القاعدة، وذلك عند كلامه عن تكفير من صوَّب أقوال المتأولين في أصول الدين، حيث قال: “وقائل هذا كله كافر بالإجماع على كفر من لم يكفر أحدا من النصارى واليهود، وكل من فارق دين المسلمين، أو وقف في تكفيرهم أو شك” الشفا 2/281، وانظر مجموعة التوحيد 271.
وليعلم أن استعمال العلماء لهذه القاعدة قديم، وليست هي من كيس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما ادعاه البعض، بله أن تكون من عنديات من جاء بعده من أهل العلم.
قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: “القرآن كلام الله عز وجل من قال مخلوق فهو كافر، ومن شك في كفره فهو كافر” أهـ.رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة بسند صحيح.
ونقل مثل هذا القول عن أبي خيثمة مصعب بن سعيد المصيفي كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة(2/256) .
وعن أبي بكر بن عياش المقري العابد، أنه سئل كما في السنة للالكائي أيضا (2/250) عمن يقول القرآن مخلوق؟ فقال: “كافر ومن لم يقل إنه كافر فهو كافر” وإسناده صحيح.
ثم نص على ذلك العلماء بعد فقد نقل القاضي عياض عن محمد بن سحنون قوله: “أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقّص له كافر، ..ومن شك بكفره وعذابه كفر” اهـ. الشفا 2/215-216، وذكره شيخ الإسلام في الصارم ص:4.
وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (ص: 586-587) في تفصيل القول في من سب الصحابة: “أما من اقترن بسبّه دعوى أن عليا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره”.
تحرير القاعدة وضبط معناها
بعد التتبع والاستقراء لاستعمالات أهل العلم لهذه القاعدة مع التأمل والنظر الدقيق واستحضار طرائق العلماء في مثل هذا الشأن، ومراعاة لأصولهم في هذه الأبواب تبين أن ذكرهم لها:
أولا: في معرض الحديث عن كل من هو كافر نوعا أو من هو كذلك عينا كفرا يقينيا قطعيا معلوما من الدين بالضرورة(3).
يقول القاضي عياض رحمه الله: “ولهذا نُكفّر من لا يُكفّر من دان بغير ملّة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحّح مذهبهم” الشفا (2/286).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي (35/98) وهو يتكلم عن طائفة الدروز: “كفر هؤلاء مما لا يختلف فيه المسلمون، بل من شك في كفرهم فهو كافر مثلهم، لا هم بمنزلة أهل الكتاب ولا المشركين، بل هم الكفرة الضالون فلا يباح أكل طعامهم..”.
ثانيا: في سياق الترهيب من عدم تكفير الكافر عينا، بعد التحقق من توفر الشروط وزوال الموانع وحكم المؤهل بذلك.
وعليه تكون القاعدة بهذا الوجه من جنس نصوص الوعيد التي يجوز إطلاقها مع مراعاة النظر في حق المعين إلى توفر الشروط وزوال الموانع، واعتبار الأهلية في الحكم فتأمل (4).
قال أبو زرعة الرازي رحمه الله: “من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم كفرا ينقل عن الملة، ومن شك في كفره ممن يفهم فهو كافر”، وقال مثله تماما أيضا أبو حاتم الرازي رحمه الله وروى ذلك كله اللالكائي في السنة 2/176.
وتأمل قولهما: “ممن يفهم”.
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في حق الجهمية: “ما رأيت قوما أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم” اهـ. من فتاوى شيخ الإسلام 12/272.
وقال الإمام البخاري رحمه الله في “خلق أفعال العباد، ص:19”: “نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل من كفرهم منهم -يعني الجهمية وإني لأستجهل من لا يكفرهم، إلا من لا يعرف كفرهم .”
فتأمل قولهما: “من لا يعرف”.
إذن من خلال ما بيناه فلا يصح بحال تطبيق هذه القاعدة في حق من لم يظهر له كفر من هم كفار شرعا من الأنواع، فخفي عليه الأمر، أو عرضت له شبهة، أو تأويل معتبر، أو نحو ذلك مما هو معلوم.
كما لا يعتبر استعمال القاعدة في حالة من لم يظهر له كفر من كفر من الأعيان، لعدم تحقق الشروط وزوال الموانع عنده في خصوص هذا العين، إلا إذا كان كفره قطعيا معلوما من الدين بالضرورة كما بيناه فتذكر.
كما لا يتصور حمل القاعدة على ما اختلف العلماء فيه هل هو من الكفر أم لا؟ فتنبه.
فالحذر من استعمال هذه القاعدة على إطلاقها وإسقاطها على عمومها، لما يؤدي إليه ذلك من التسلسل في التكفير، كما وقع فيه الكثير فكفروا مطلقا من لم يكفِّر من كفَّروه، ثم يكفِّروا من لم يكفِّر من لم يكفِّر من كفَّروه.. وهكذا دواليك!!
فتعجب أيها البصير من هذا الجهل السافر والفهم القاصر والعقل الخاسر كل العجب، لكن كما قال البهنساوي: “ومن دواعي الأسى والأسف أن شهوة التكفير وحب الاستعلاء قد تؤدي إلى إيجاد قواعد أخرى للتحلل من مفاهيم الأصول والنصوص الشرعية، تعمدوا هذا أم لم يتعمدوه..” الحكم وقضية التكفير 137.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – نقل الإمام البيهقي في مناقب الشافعي 1/459 –قوله- رحمه الله –أيضا-: “تناظروا في شيء إن أخطأتم فيه، يقال لكم: أخطأتم، ولا تناظروا في شيء إن أخطأتم فيه، يقال لكم: كفرتم”.
2 – فغدا هذا التكفير سمة لا تنفك عن أهل البدع كما قال ابن تيمية رحمه الله: “وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم، كالخوارج والمعتزلة والجهمية” منهاج السنة 5/240.
وما زال هذا الوباء يسري من قديم بين المسلمين حتى وصل إلى بعض المتنسبين للمذاهب الفقهية لأهل السنة والجماعة، فتداول متعصبة المذاهب تكفير الآخرين “ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم” منهاج السنة 5/240.
لكن هذه الصورة من صور التكفير لم يكن لها كبير أثر في المسلمين قديما، لأنه كما قال ابن الهمام رحمه الله: “ويقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير، ولكنه ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون، بل من غيرهم، ولا عبرة بغير الفقهاء” شرح فتح القدير6/100.
3 – وقد مر معنا استثناء في خصوصه فاستحضره.
4 – ويلحق بهذا الوجه عدم التكفير لمن هو كافر نوعا بعد التحقق من كون الأمر كذلك شرعا كفرا واضحا أو متفقا عليه فتنبه.