توضيح المسالك إلى بيان شروط إسقاط حكم الكفر على المعين وموانع ذلك الفصل التاسع الحلقة السادسة عشرة

مرّ معنا أن الخطأ عند الفقهاء ينقسم إلى قسمين: خطأ في القصد، وخطأ في الفعل، وقد سبق بيان هذا الأخير.
أما الخطأ في القصد.
فهو: “أن يقصد إلى الفعل فيخطئ في محله”(1) الجامع في شرح الأربعين 2/1337.
ومثاله: من قصد إلى تمزيق كتاب فوقع على مصحف.
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: “فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر والشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا، فإنه يعذر بالجهل والخطأ، حتى يتبين له الحجة التي يكفر تاركها بيانا واضحا ما يلتبس على مسلم، وينكر ما هو معلوم بالضرورة من دين الإسلام مما أجمعوا عليه إجماعا قطعيا يعرفه كل من المسلمين من غير نظر وتأمل” نقلا عن محاسن التأويل 5/1307-1308.
التنبيه الأول
مما يرجع إلى الخطأ في القصد -كذلك- المتلبس بالعمل الكفري الواضح “لكن يمنع من إطلاق الكفر على الشخص المعين الاحتمال الوارد على قصده، كما وقع لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما قدم من الشام، فسجد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ما هذا يا معاذ؟، قال: أتيت الشام فوافقتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم، فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك، فقال عليه الصلاة والسلام: فلا تفعلوا، فإني لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) الحديث.
فالسجود لغير الله على وجه العبادة كفر، ولكن معاذا رضي الله عنه لما قصد بذلك السجود تحية النبي عليه الصلاة والسلام لم يصفه النبي عليه الصلاة والسلام بكفر ولا شرك ولكن نهاه” الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 174.
فهذه الصورة وإن كانت من صور الخطأ في القصد فينازعها -في الوقت نفسه- مانع الجهل، بحيث جهل معاذ رضي الله عنه أن صورة السجود التي هي من صور العبادة لا تصرف إلا لله تعالى، والكلام عن العذر بالجهل قد مضى معنا تحريره.
التنبيه الثاني
مما يرجع كذلك إلى الخطأ في القصد المخطئ المجتهد (المجتهد المؤهل)(2) الذي وقع في كفر أو بدعة أو فسق كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والخطأ في العلم هو من هذا النوع (أي: من الخطأ في القصد)” الفتاوي 20/23.
وقال كذلك رحمه الله: “وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقصد الحق فأخطأ لم يكفر” الفتاوي 12/180.
والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر” متفق عليه.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: “فإن قيل: كيف يجوز أن يكون للمخطئ فيما أخطأ فيه أجر، وهو إلى أن يكون عليه في ذلك إثم لتوانيه وتفريطه في الاجتهاد حتى أخطأ؟
فالجواب: أن هذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للمخطئ أجرا على خطئه وإنما جعل له أجرا على اجتهاده وعفا عن خطئه لأنه لم يقصده، وأما المصيب فله أجر على اجتهاده وأجر على إصابته” الفقيه والمتفقه 1/191، وانظر البحر المحيط للزركشي 6/262، والإحكام لابن حزم 2/652، في آخرين.
ويدخل ضمن أقسام الخطأ في الاجتهاد الخطأ في التأويل حيث هذا الأخير نوع من أنواعه انظر موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع 1/222.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “..ليس كل مخطئ يكفر لاسيما إذا قاله متأولا باجتهاد أو تقليد” الرد على البكري 8/32.
ومانع التأويل سيأتي معنا تفصيله.
عموم أدلة اعتبار الخطأ مانعا من موانع التكفير، وعارضا من عوارض الأهلية
جاءت نصوص الشريعة بالوعيد لمن تعمد الخطأ دون من أراد الحق فأخطأه، أو لم يتعمد الخطأ لكنه وقع فيه.
فغفر الله تعالى الخطأ بقوله على لسان المؤمنين: “رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا” وقد ثبت في الحديث الصحيح استجابته لهذا الدعاء فقال: “فقد فعلت” رواه مسلم.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “المخطئ: من أراد الصواب فصار إلى غيره ويفرق بينه وبين الخاطئ، بأن الخاطئ من تعمد الخطأ..
وأما الخطأ المعفو عنه فهو مثل قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ)” الفتح 5/160.
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه” صحيح سنن ابن ماجة.
قال ابن رجب رحمه الله: “الخطأ هو أن يقصد بفعله شيئا فيصادف فعله غير ما قصد.. والنسيان أن يكون ذاكرا الشيء فينساه عند الفعل، وكلاهما معفو عنه: يعني لا إثم فيه.. والأظهر -والله أعلم- أن الناسي والمخطئ إنما عفي عنهما بمعنى: رفع الإثم عنهما، لأن الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والناسي والمخطئ لا قصد لهما، فلا إثم عليهما” جامع العلوم والحكم 375.
و”قد تواترت النصوص من الكتاب والسنة في إعذار المخطئ وأن حكمه حكم الجاهل والمتأول..” مزيل الإلباس في الأحكام على الناس 148.
كما انعقد الإجماع على رفع الإثم على المخطئ انظر الجامع لأحكام القرآن 3/431.
وقال الحافط في الفتح 11/551: “..قال ابن التين: أجرا البخاري قوله تعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ) في كل شيء.
وقال غيره: هي في قصة مخصوصة وهي: ما إذا قال الرجل: يا بني وهو ليس ابنه.. ولو سُلِّم أن الآية نزلت فيما ذكر لم يمنع ذلك من الاستدلال بعمومها، وقد أجمعوا على العمل بعمومها في سقوط الإثم”.
وعموم هذه الأدلة وغيرها في الباب لا تفرق في الإعذار بالخطأ بين مسائل العقيدة والأحكام فتأمل.
والتفريق بينهما: تفريق بلا مفرق، ولا دليل ولا برهان، كما لا يعرف ذلك عن سلف هذا الأمة الصالح.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “إني من أعظم الناس نهيا عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرا تارة، وفاسقا أخرى، وعاصيا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية، والمسائل العملية” الفتاوي 3/229، وانظر منهاج السنة 5/87.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- فالخطأ فيه في ذات القصد، لأن الفعل اتجه إلى مقصده، ولكن الخطأ كان في أصل المقصد. انظر عوارض الأهلية عند علماء أصول الفقه 402. ولذلك عرف ابن تيمية رحمه الله الخطأ في القصد بقوله: “أن يخطأ في قصده لعدم العلم” الفتاوي 20/22.
2- كما هو واضح فالمقصود من المجتهد هنا الذي توفرت فيه شروط ذلك كما هو مقرر في كتب الأصول، أما ما دون ذلك من الاجتهاد فليس كل اجتهاد من كل شخص -وإن رفع الإثم عن صاحبه- يؤجر على ذلك، والمسألة محل تفصيل، تجده في مظانه. انظر على سبيل المثال: مزيل الإلباس في الأحكام على الناس 151.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *