يستدل بعض الناس على جواز أمور منهي عنها شرعا بمجرد شيوعها وانتشارها, متكئين على قاعدة “عموم البلوى” دون تحقيق لمفهومها, ولا نظر إلى صورتها الشرعية.
فنقول ابتداء: المراد بعموم البلوى: شيوع البلاء بحيث يتعذر على الإنسان أن يتخلص منه أو يبتعد عنه، (أنظر الأشباه والنظائر للسيوطي 92).
ويشمل ذلك العبادات والطهارات والنجاسات, وكذلك قضايا المعاملات التي انتشرت بين الناس بحيث لو أخذ بأصل الحكم فيها لأدى إلى المشقة التي لا يتحملها جنس بني الإنسان, ولتعطلت مصالح الناس المعتبرة.
ومن ثم اتفق العلماء على أن العسر وعموم البلوى من المشاق التي تبيح الترخص. (أنظر الدرر البهية في الرخص الشرعية 246).
ومن الأدلة التي استدل بها العلماء على صحة القاعدة استنباطا واستدلالا: أن امرأة جاءت لأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها فقالت: إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يطهِّرُه ما بعده” (صحيح سنن أبي داوود).
فالنبي صلى الله عليه وسلم رخص للمرأة أن ترخي ذيلها ذراعا, والمعلوم بالضرورة أنه يصيبه القذر والنجاسات في الشوارع, لأن الذيول تتكرر ملاقاتها للنجاسات, فصارت كأسفل الخف, بل قال لها: يطهره ما بعده. (أنظر الفتاوي 21/689, وإغاثة اللهفان 1/234).
وقال ابن المنذر رحمه الله: “وطئ ابن عمر بمنى وهو حاف في ماء وطين, ثم صلى ولم يتوضأ”.
قال أبو البركات ابن تيمية رحمه الله: “وهذا كله يقوي طهارة الأرض بالجفاف, لأن الإنسان في العادة لا يزال يشاهد النجاسات في بقعة من طرقاته التي يكثر فيها تردده إلى سوقه ومسجده وغيرهما, وقد علم أن السلف لم يحترزوا من ذلك” (أنظر إغاثة الللهفان 1/242) .
إلا أنه ينبغي أن يعلم أن قاعدة عموم البلوى لا تستعمل عند شيوع الأمر وانتشاره فحسب, لأن مجرد ذلك ليس بموجب لإباحتها وجوازها إذا كان منهيا عنها أصلا.
قال العلامة المالكي أبو بكر الطرطوشي رحمه الله: “شيوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه, كما أن كتمه لا يدل على منعه” (الحوادث والبدع 165).
وعليه فإن مفهوم عموم البلوى عند العلماء هو في حالة كثرة الشيء المنهي عنه وشيوعه مع مشقة الاحتراز عنه، مشقة لا يتحملها جنس بني آدم حيث يعم الابتلاء بسببها, فيسقط التكليف بها لعدم القدرة عليها فعلا أو تركا.
قال الشاطبي رحمه الله: “ثبت في الأصول أن شرط التكليف..القدرة على المكلف به, فما لا قدرة للمكلف عليه, لا يصح التكليف به شرعا, وإن جاز عقلا” (الموافقات 2/107).
وهو نفس ما أكده القرافي رحمه الله حيث قال: “والقاعدة أن المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف” (الفروق 3/198).
ولذلك فقاعدة عموم البلوى ترجع إلى قاعدة شرعية أخرى وهي: “ما لا يمكن التحرز منه معفو عنه” (أنظر المغني 1/350).
كما ينبغي أن يعلم كذلك أنه وإن كان أصل القاعدة فيما شاع وانتشر إلا إنها تستعمل عند نزارة الشيء وقلته لعموم علة التحرز. (أنظر الدرر البهية في الرخص الشرعية 261).
وقد نبه الغزالي رحمه الله في الإحياء 2/146-147 إلى المراد بالكثير والأكثر والقليل في القاعدة وما هي الغلبة التي تصلح عذرا في الأحكام وأنه ليس المراد الغلبة المطلقة, وإنما أن يكون في الإحتراز أو الاستغناء عنها مشقة وصعوبة, نظرا لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال, هذا إن لم تتميز العين النجسة أو المحرمة, فحينئذ لا يجوز الإقدام عليها أو التلبس بها, وإنما المقام مقام اشتباه مع مشقة احتراز أو مسيس حاجة، فإن ما ضاق اتسع. (أنظر رفع الحرج في الشريعة الإسلامبة 274).