توضيح المسالك إلى بيان شروط إسقاط حكم الكفر على المعين وموانع ذلك الفصل الثامن الحلقة الخامسة عشرة رشيد مومن الإدريسي

إلحاق الكفر بالمعين المسلم المتلبس بما هو كفر شرعا لا يقدم عليه المؤهل إلا بعد توفر الشروط وزوال الموانع، وقد سبق الحديث عن مانع الجهل، ومن هذه الموانع الشرعية المقررة عند أهل العلم مانع الخطأ.
تعريف الخطأ لغة واصطلاحا
الخطأ والخطاء: ضد الصواب، وقد أخطأ، قال تعالى: “وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ”، عدّاه بالباء لأنه في معنى عثرتم أو غلطتم، وأخطأ الطريق: عَدَل عنه، وأخطأ الرامي الغرض: لم يصبه.. والخطأ: ما لم يتعمد، والخِطْء: ما تُعُمِّدَ” لسان العرب 1/65-68، وانظر مختار الصحاح 179-180، والنهاية في غريب الحديث 2/44-45 في آخرين.
والتحقيق في هذا المقام ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال في مجموع الفتاوي 20/20-21: “ولفظ الخطأ يستعمل في العمد وفي غير العمد، قال تعالى: “وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأ كَبِيراً”، والأكثرون يقرؤون “خطأ” على وزن رِدًّا وعِلمًا، وقرأ ابن عامر “خطأ” على وزن عَمَلا، كلفظ الخطَأ في قوله: “وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً”..يقال في العمد: خطأ، كما يقال في غير العمد على قراءة ابن عامر..”.
والمراد في بحثنا هذا الخطأ بمعنى: غير العمد، وهذا المعنى هو المشهور استعمالا لهذه اللفظة، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والمشهور أن لفظ الخطأ يفارق العمد” الفتاوي 20/22.
وتعريفه اصطلاحا قريب من المعنى اللغوي، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “الخطأ هو أن يقصد بفعله شيئا فيصادف فعله غير ما قصده” جامع العلوم والحكم 352.
وعرفه ابن الهمام رحمه الله بقوله: “الخطأ أن يقصد الفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية” تيسير التحرير 2/305.
وقال البخاري الحنفي: “الخطأ فعل أو قول يصدر عن الإنسان بغير قصده” كشف الأسرار 4/380.

أقسام الخطأ
قسم الفقهاء رحمهم الله الخطأ إلى قسمين كما نص عليه شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوي 20/22 حيث قال: “وقد بين الفقهاء أن الخطأ ينقسم إلى خطأ في الفعل وإلى خطأ في القصد”.
1- خطأ في الفعل(1):
وهو: “أن يقع من المكلف فعل لم يكن قاصدا إليه أصلا” الجامع في شرح الأربعين لمحمد يسري 2/1337.
ومن أمثلته فيما نحن بصدده أن يريد العبد النطق بلفظ فيسبق لسانه(2) ويزل إلى لفظ الكفر.
قال ابن القيم رحمه الله: “الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان.. وسبق اللسان بما لم يرده، والتكلم في الإغلاق ولغو اليمين فهذه.. أشياء لا يؤاخذ الله بها عبده بالتكلم في حال منها لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذ به” إعلام الموقعين 3/106.
تنبـيه: الفرق بين “قصد الفعل”، و”قصد الكفر!”(3):
المانع من إلحاق الكفر بالمعين في هذا المجال عدم قصد الفعل لا عدم قصد الكفر(4)! فهذا الأخير لا يمنع انتفاؤه أو ادعاء انتفائه من المؤاخذة بالفعل المكفر، إذ لو جعل مانعا معتبرا لتذرع به كل مشرك وكل كافر، وتسبب ذلك في إغلاق باب التكفير مطلقا.
فالعابد للصليب مثلا لم يقصد بذلك تكفير نفسه!
والعابد للبقر كذلك لم يرد تكفير ذاته!
وكذلك العابد للصنم والوثن كما حكاه الله سبحانه عنهم في كتابه: “مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى”.
قال تعالى: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً”.
قال ابن جرير الطبري عند تفسيره لهذه الآية: “وهذا من أدل الدلائل على خطأ قول من زعم أنه لا يكفر بالله أحد إلا من حيث يقصد إلى الكفر بعد العلم بوحدانيته” تفسير بن جرير 8/298.
هذا وإن كان يجري على لسان بعض الأئمة والعلماء في سياق الكلام عن التكفير عبارة “قصد الكفر” كشرط للمؤاخذة بالفعل المكفر، ومنهم على سبيل المثال شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال عند مناقشته قول من قال: “عصيت الله في كل ما أمرني به” : “فإن أكثر أصحابنا قالوا: ليس ذلك بيمين، لأنه إنما التزم المعصية كما لو قال محوت المصحف، أو شربت الخمر إن فعلت كذا، ولم يُظْهِر قصد إرادة الكفر من هذا العموم” الصارم المسلول 3/1045.
فيحمل مثل هذا لزاما على: “قصد الفعل المؤدي حكمه إلى الكفر”، لا على “قصد الكفر”!! -ذاته-، لأن بطلان اشتراط هذا الأخير للمؤاخذة بالفعل المكفر لا تخفى على من عنده أدنى مسكة من عقل، أو علم!
وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله -نفسه- مفرقا بين قصد الفعل وقصد الكفر: “وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك وإن لم يقصد أن يكون كافرا، إذ لا يقصد الكفر أحد إلا ما شاء الله” الصارم المسلول 177-178.
وللبحث بقية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- وهذا النوع من الخطأ يسميه أهل الكلام: التولد، لأنه تولد عن فعله، ولم يقصد هو فعله، انظر الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم رحمه الله تعالى 5/717.
2- وقد جعل الإمام ابن القيم رحمه الله سبق اللسان له تعلق بالخطأ في الفعل كما ينازعه الخطأ في القصد (وسيأتي معنا بيان معناه).
وقد يمثل لسبق اللسان على أنه خطأ في القصد بمن أشار عن بعد بسب شخص يعرفه بعينه فظهر أنه خلاف من يريده ووجده نبيا.
قال ابن القيم رحمه الله: “وأما سبق اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد” إعلام الموقعين 3/107.
3- انظر الإكمال بتقريب شرح نواقض الإسلام لعبد العزيز آل رايس 69.
4- وعليه يحمل قول الحافظ ابن حجر رحمه الله لما قال: “من المسلمين من يخرج من الدين من غير أن يقصد الخروج منه، ومن غير أن يختار دينا على دين الإسلام” الفتح 12/373.
كما عليه يحمل من نص في باب التكفير على “عدم اعتبار القصد بمعنى الاعتقاد والنية”، لا المراد بهذا النص نفي التلازم بين الظاهر والباطن فتنبه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *