توضيح المسالك إلى بيان شروط إسقاط حكم الكفر على المعين وموانع ذلك الفصل العاشر الحلقة السابعة عشر

من موانع إلحاق الكفر بالمعين المسلِم إذا تلبس بما هو كفر شرعا مانع التأويل، فهو عذر متفق عليه بين أهل العلم والسنة في الجملة، كالعذر بالخطأ والجهل ونحوهما.

وعليه فإن الإعذار بالتأويل له اعتبار -عموما- في مسألة التكفير أو الإكفار.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم كمن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجَحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة، وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها وإن كان مخطأ” الفتاوي 3/231.
ويعلق الإمام الشوكاني رحمه الله على عبارة صاحب الأزهار: “والمرتد بأي وجه.. كفر” فيقول: “أراد المصنف إدخال كفار التأويل اصطلاحا(1) في مسمى الردة وهذه زلة قدم يقال عندها لليدين وللفم، وعثرة لا تقال، وهفوة لا تغتفر، ولو صح هذا لكان غالب من على ظهر البسيطة من المسلمين مرتدين” السيل الجرار 4/373.
وقال العلامة السعدي رحمه الله: “إن المتأوّل من أهل القبلة الذين ضلوا وأخطؤوا في فهم ما جاء في الكتاب والسنة مع إيمانهم بالرسول واعتقادهم صدقه في كل ما قال، وأن ما قاله كان حقا والتزموا ذلك، لكنهم أخطؤوا في بعض المسائل الخبرية أو العملية فهؤلاء قد دلَّ الكتاب والسنة على عدم خروجهم من الدين، وعدم الحكم لهم بأحكام الكافرين، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم والتابعون ومن بعدهم من أئمة السلف على ذلك” الإرشاد في معرفة الأحكام 207.
التأويل في اللغة والاصطلاح
التأويل في اللغة كما في لسان العرب 1/130: “الأوَل الرجوع، آل الشيء يؤول ومآلا رجع، وأول إليه الشيء: رجعه”.
أما في الاصطلاح فيطلق ويراد به التفسير أو ما يؤول إليه الأمر أو له الكلام.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “وفي التأويل وجهان: أحدهما: التفسير، والثاني: العاقبة المنتظرة” زاد المسير 1/345، وانظر الجامع لأحكام القرآن 7/271.
وللتأويل في اصطلاح المتأخرين(2) معنى آخر وهو: “صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن بذلك” الفتاوي 5/35.
والمقصود بالتأويل في بحثنا هذا: “ما يعرض للشخص من فهم لنصوص الشريعة يكون مخالفا لما فهمه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم وأئمة الدين، وذلك لورود شبهة معينة على ذهن الشخص تصرفه عن الحق، فيقع في المخالفة من حيث يقصد -إن كان صادقا- الموافقة للشريعة” الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 328، وانظر منهج الإمام محمد بن عبد الوهاب في مسألة التكفير لناصر بن عبد الكريم العقل 132.
والقصد أن المرء إذا كان متأولا في إلقائه قالة الكفر أو المجيء بفعل ردَّة فإنه يعذر ولا يكفر وذلك لدلائل معتبرة.
دلائل الإعذار بمانع التأويل
الأولى: الإعذار بالخطأ، ذلك أن كل ما صدر عن المرء من اعتقاد أو قول أو عمل يعد كفرا شرعا بناء على تأوله فهو مخطئ في حقيقة الأمر.
وعليه فالأدلة التي جاءت في عذر المخطئ -وقد مر معنا تقرير ذلك- حتى تقام عليه الحجة، فإنها تنطبق على المتأول باعتبار اتفاق المناط بينهما.
قال الإمام ابن الوزير رحمه الله: “قد تكاثرت الآيات والأحاديث في العفو عن الخطأ، والظاهر أن أهل التأويل أخطئوا، ولا سبيل إلى العلم بتعمدهم لأنه من علم الباطن الذي لا يعلمه إلا الله تعالى…” (إيثار الحق على الخلق 435-436).
الدلالة الثانية: الإعذار بالجهل -وقد مر معنا بيانه وتفصيله-، فإذا أعذر الجاهل، فالمتأول من باب أولى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله عند ذكره للحديث المشهور حديث الرجل الذي أوصى بإحراقه بعد موته: “فهذا الرجل شك في قدرة الله وفي إعادته إذا ذرِّي، بل اعتقد أنه لا يعاد وهذا كفر باتفاق المسلمين، ولكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنا يخاف الله أن يعاقبه فغفر الله له بذلك، والمتأوِّل من أهل الاجتهاد(3) الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا” الفتاوي 3/231.
الدلالة الثالثة: دلالة الوقائع زمن التشريع وغيره، من ذلك:
ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا كان يوم، أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقلت: والله، لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد -مرتين-“.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “كما ضمن -أي النبي صلى الله عليه وسلم- لبني جذيمة ما أتلفه عليهم خالد من نفوسهم وأموالهم، وأنكره وتبرأ منه، ولما كان إصابته لهم عن نوع شبهة، إذ لم يقولوا: أسلمنا، وإنما قالوا صبأنا، فلم يكن إسلاما صريحا، ضمنهم نصف دياتهم لأجل التأويل والشبهة” زاد المعاد 3/142.
وثبت أن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال لسعد بن عبادة رضي الله عنه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة: “إنك منافق تجادل عن المنافقين” رواه البخاري ومسلم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى معلقا على هذه الحادثة: “فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، ولم يحكم على أسيد بن حضير في قوله بشيء لكونه متأولا في مقالته هذه”. الفتاوي 3/283.
ومن الوقائع كذلك حادثة قدامة رضي الله عنه وطائفة معه حيث شربوا الخمر وتأولوا قوله تعالى: “لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات”، فلما بلغ الخبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم في ذلك، ثم وقع إجماعهم على رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وأرسل عمر لقدامة يقول له: “أخطأت إستك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر” مصنف عبد الرزاق 9/242، الفتاوي 11/403-404.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولا يكفر الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة، كمن.. استحل الخمر والزنا وتأول.. كما فعل الصحابة -رضي الله عنهم- في الطائفة الذين استحلوا الخمر” الفتاوي 7/619. فتأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يسمه الجاهلون -العلمانيون- بالدعوة إلى التكفير مطلقا والله المستعان.
وللبحث بقية..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- وهذا مثل قول أهل العلم: “فساق التأويل”، قال جمال الدين القاسمي عن هؤلاء في معرض الكلام عن قبول رواياتهم: “وهذا الإطلاق اصطلاحي للفقهاء، وربما رجع الخلاف -في تسمية أولائك فساقا- لفظيا، وإلا فيستحيل إرادة الفسق الحقيقي المانع للشهادة والرواية”، الجرح والتعديل 34.

2- قال شيخ الإسلام رحمه الله بعدما حكى هذا النوع من التأويل: “وتسمية هذا تأويلا لم يكن في عرف السلف، وإنما سمى هذا وحده تأويلا طائفة من المتأخرين الخائضين في الفقه وأصوله والكلام” الفتاوي 4/69.
3- ويلحق به من تلبَّس بالكفر من المقلدين تقليدا صحيحا فإنه لا يكفر ولا يفسق، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “لكن ليس كل مخطئ يكفر لا سِيما إذا قاله متأولا باجتهاد أو تقليد” الرد على البكري 328 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *