قرر البعض أصل: التيسير في الفتوى, وجعلوا ذلك قاعدة مطردة, مستدلين بآيات وأحاديث وآثار ومن جملة ذلك ما أثِر عن سفيان الثوري رحمه الله قال: “إنما العلم أن تسمع بالرخصة عن ثقة, فأما التشدد فيحسنه كل أحد” جامع بيان العلم 255, صفة الفتوى لابن حمدان رحمه الله, شرح السنة للبغوي رحمه الله 1/290, آداب الفتوى للنووي رحمه الله 37.
فنقول بيانا لبطلان هذا الأصل: أن ما استدل به من الآيات والأحاديث مثل قوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر” ومثل قوله صلى اله عليه وسلم في الحديث الحسن: “بعثت بالحنيفية السمحة” فلا يدل ذلك إلا على أن الشريعة في ذاتها -بعقائدها وأحكامها ومقاصدها وحدودها وتعزيراتها- هي يسر, ولا يلزم من ذلك تقرير أصل التيسير في الفتوى, لما يؤدي إليه ذلك من تتبع زلل العلماء, والأخذ بالرخص غير المشروعة, وإسقاط التكاليف, واتباع هوى النفوس, مع أن “المقصد الشرعي من وضع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا, كما هو عبد لله اضطرارا” الموافقات 2/128.
قال ابن حزم رحمه الله رادا على من قرر ذلك الأصل: “فإن احتج بقوله تعالى: “يريد الله بكم اليسر” فقد علمنا أن كل ما ألزم الله تعالى فهو يسر بقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)” الأحكام 869.
إذن فمن الخطأ البين الاستدلال بيسر الشريعة على التيسير في الفتوى! وتؤكد لنا لغة العرب هذا الأمر حيث “اليسر” صفة لازمة للشريعة, ومقصد من مقاصدها التشريعية, و”التيسير” يُباينه فهو فعل من البشر فتنبه!
وأما قول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين: “ما خُيّّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يأثم فإذا كان الإثم كان أبعدهما منه”.
فنقول: إن التخيير المذكور في الحديث حمل على أمور الدنيا لا الدين.
قال الحافظ في الفتح 6/713: “قوله: بين أمرين أي: من أمور الدنيا لأن أمور الدين لا إثم فيها…ووقوع التخيير بين ما فيه إثم وما لا إثم فيه من قبل المخلوقين واضح, وأما من قبل الله ففيه إشكال, لأن التخيير إنما يكون بين جائزين”.
والكلام نفسه ذكره العلامة “العيني” في عمدة القاري عند شرحه لهذا الحديث.
وعلى القول بأن الحديث يشمل أمور الدين والدنيا كما جنح إليه محمد سعيد الباني في كتابه “عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق” متعقبا ابن حجر, والعيني رحمهما الله, انظر الصفحة 159-160.
فنقول على ذلك: إن الاختيار في أمر الدين واقع منه صلى الهم عليه وسلم فيما خير فيه -كما هو ظاهر الحديث- وليس في كل ما أوحي إليه أو كُلف به هو وأمته, ومثال ذلك الاختلاف في صيغ الأذان والتشهد, ونحو ذلك مما دلت عليه الأحاديث الصحيحة.
أو نقول: أن هذا التخيير مقيد -كما في الحديث- بما لم يكن إثما, كأن يكون الأخذ بـ”الأيسر من أمور الدين مفضيا إلى الإثم إما بالتهاون عن الأداء بتاتا, وإما بالأداء على وجه غير صحيح بتخلل بطلان أو فساد، وإما بالأداء على وجه ناقص بتخلل ما يقتضي كراهة التحريم من إتيان أو ترك”. عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق 160.
وبناء على ما سبق فإن لفظة “الرخصة” في كلام سفيان الثوري رحمه الله السالف الذكر ليس القصد منها الرخص المشروعة كقصر الصلاة في السفر, والإفطار فيه ونحو ذلك, لأن أمثالها: يسر من الله تعالى وليست تيسيرا من المفتي فتأمل فإن كلام سفيان رحمه الله على الأمر الثاني لا الأول.
كما أنه رحمه الله لا يقصد بذلك أهون أقوال العلماء في مسائل الخلاف, لأن تتبع ذلك منهي عنه إجماعا, كما حكاه غير واحد من أهل العلم كابن عبد البر رحمه الله في جامعه 2/91-92.
ومن ثم فقصد سفيان الثوري رحمه الله من الرخصة في كلامه ما قاله السبكي رحمه الله مُعرِّفا إياها: “الرخصة ما تغير من الحكم الشرعي لعذر إلى سهولة ويسر مع قيام السبب للحكم الأصلي كأكل الميتة للمضطر”. رفع الحاجب 2/26.
وعليه فكلام سفيان رحمه الله مجاله أن يكون التيسير الذي حُكم به قد قرره إمام أو عالم مجتهد يصلح الاجتهاد من مثله بتطبيق أصول وقواعد الشرع ومنها قاعدة “المشقة تجلب التيسير”, أو “الضرر يُزال” أو نحو ذلك من القواعد, فإذا كان الحكم اليسير جاء على اجتهاد صحيح على قواعد رفع الحرج فإن هذا يكون من الدين الذي هو أحب إلى الله جل وعلا من التشديد حيث ترْك الأخذ بالرخصة المأذون فيها -عند الحرج والعذر أو الضرورة- تشديد, والتشديد يحسنه كل أحد.