مرّ معنا -في الحلقة الأولى- بيان عظم إخراج المسلم من دائرة الإسلام, وأنه من المزالق العظام, لما يترتب عليه من الأمور الجسام.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جُهَينَة, قال: فصبحنا القوم فهزمناهم, قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم, قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله, فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته, فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم, قال: فقال لي: يا أسامة أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله إنه إنما كان متعوذا، قال: قتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟, فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم”.
قال الحافظ ابن حجر عند هذا الحديث: “قال: ابن التين: في هذا اللوم تعليم وإبلاغ في الموعظة حتى لا يقدم أحد على قتل من تلفظ بالتوحيد.
وقال القرطبي: في تكريره ذلك والإعراض عن قبول العذر زجر شديد عن الإقدام على مثل ذلك” الفتح 12/243.
وقال أبو بطين رحمه الله: “وبالجملة يجب على من نصح نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام لمجرد فهمه واستحسان عقله”. (الكفر الذي يعذر صاحبه بالجهل21).
من ثبت إسلامه بيقين, لم يزل عنه بالشك
من خلال ما سبق قرر العلماء رحمهم الله أن “من ثبت إسلامه بيقين, لم يزل عنه بالشك” الفتاوي 12/501.
وقال ابن بطال رحمه الله: “وإذا وقع الشك في ذلك (يعني في كفر الخوارج) لم يقطع عليهم بالخروج من الإسلام, لأن من ثبت له عقد الإسلام بيقين لم يخرج منه إلا بيقين” الفتح 12/314, وانظر كذلك كلام الزركشي رحمه الله كما في تحفة المحتاج 2/84.
قال الناظم:
إلى اليقين ترجع الأحكام *** بالشك لا يزال يا همام
ومن ثم سار العلماء في هذا الباب على النظر والتأمل دون عجل, وليس ذلك كذلك, إلا لأن “التكفير لا يكون بأمر محتمل” الصارم المسلول لابن تيمية 3/96.
مع العلم أن معنى لفظة “الشك” في كلام العلماء -هذا- هو كما بينه الجرجاني رحمه الله بقوله: “التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر, عند الشاك” (التعريفات 113, وانظر البحر المحيط 1/78, في آخرين).
وهذا المعنى الاصطلاحي لهذه اللفظة يوافق ما هو مقرر عند أهل اللغة (فانظر معجم مقاييس اللغة, والمعجم الوسيط وغيرهما).
أما حقيقة معنى لفظة اليقين -فيما ذكر- فلغوية -كذلك- بحيث اليقين في اللغة: “العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر” كما في لسان العرب, ويقال: “يقن الأمر بيقين.. إذا ثبت ووضح” كما في المصباح المنير.
ومنه فإن لفظة اليقين -هنا- تشمل: حقيقة اليقين, والظن الراجح, وعلى هذا الأخير اصطلاح الفقهاء رحمهم الله كما نص عليه النووي رحمه الله في المجموع شرح المهذب 1/187.
قال شيخ الإسلام رحمه الله مبينا كل ذلك في قضية التكفير: “التكفير حكم شرعي يرجع إلى إباحة المال وسفك الدماء والحكم بالخلود في النار, فمأخذه كسائر الأحكام الشرعية, فتارة يدرك باليقين, وتارة يدرك بظن غالب, وتارة يتردد فيه, ومهما حصل تردد فالتوقف عن التكفير أولى, والمبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل” بغية المرتاد 345, وتسمى “الرد على الطوائف الملحدة” كما في الفتاوي الكبرى 6/323.
عقد الإسلام, وبم يثبت؟
ننبه -في هذا المقام- على مسألة جليلة ضلت فيها الأفهام وزلت فيها الأقدام وهي: “عقد الإسلام, وبم يثبت؟”.
فنقول: إن كلام أهل العلم حول ثبوت إسلام المرء باليقين -في كلامهم السابق- أمر نسبي بمعنى: أن ذلك بالنسبة إلى ظاهر حال الإنسان، وهذا ما يعرف عند أهل العلم بـ “الإسلام الحكمي” الذي به النجاة في الدنيا, وأما في الآخرة فلا نجاة إلا بـ “الإسلام الحقيقي” انظر معارج القبول 2/208, وضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة 22.
والمهم في كلامنا الحديث عن ثبوت وصف الإسلام الذي نجري عليه أحكام الدنيا والذي اصطـُلح عليه –كما قلنا آنفا- بـ “الإسلام الحكمي” (1), فإن العبرة بثبوت ذلك: “الظاهر”(2) لا “الباطن”.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا لا يستلزم الإيمان الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة” الفتاوي 7/133.
وقال كذلك رحمه الله مفسرا قوله تعالى: “قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا”: “والأعراب إنما أتوا بإسلام ظاهر نطقوا فيه بالشهادتين, سواء كانوا صادقين أم كاذبين فأثبت الله لهم الإسلام دون الإيمان” الفتاوي 7/158, وانظر العقيدة الطحاوية مع شرحها 427.
ولأجله “اتفق العلماء على أن إسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم أسلموا ظاهرا” الفتاوي 7/351.
ومن الأدلة على هذا الذي قرر -وهي كثيرة جدا- حديث أسامة رضي الله عنه السالف الذكر, وتؤكده رواية له عند مسلم قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه: “أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟”.
قال القرطبي رحمه الله: “وفيه (أي: الحديث) دليل على ترتب الأحكام على أسبابه الظاهرة دون الباطنة” الفتح 12/243.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: “ومن المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط, ويعصِم دمه بذلك, ويجعله مسلما فقد أنكر على أسامة بن زيد قتله لمن قال: لا إله إلا الله” جامع العلوم والحكم83.
إذن فالحكم بالإسلام يثبت بمجرد النطق بالشهادتين, وهو أمر مجمع عليه كما حكاه غير واحد, انظر” العذر بالجهل” لأحمد فريد 30.
وهذا معنى قول الإمام الزهري رحمه الله: “الإسلام الكلمة, والإيمان العمل” الإيمان لابن تيمية 280.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “.. فلا يكون مسلما إلا من شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله, وهذه الكلمة يدخل بها الإنسان الإسلام, فمن قال: الإسلام الكلمة وأراد هذا فقد صدق” الإيمان 256.
ومن الآثار الجميلة في ذلك ما رواه ابن أبي شيبة رحمه الله في كتابه الإيمان عن سوار بن شبيب قال: “جاء رجل إلى ابن عمر, فقال: إن –ها هنا- قوما يشهدون علي بالكفر! قال: فقال: “ألا تقول: لا إله إلا الله, فتكذبهم” وسنده صحيح كما حكم بذلك الشيخ الألباني رحمه الله في تحقيقه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة رحمه الله ص:22.
قال البغوي رحمه الله: “الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية, فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه..” نيل الأوطار 8/12.
هل النطق بالشهادتين هو الصورة الوحيدة للحكم بإسلام المرء؟
ليس النطق بالشهادتين هو الصورة الوحيدة للحكم بإسلام المرء -على الصحيح من قولي الفقهاء- وإنما ذكر ذلك فقط لأنه هو الحالة الغالبة لكل من يريد الدخول في الإسلام, وإلا فقد ثبت أن للوصف بذلك صور أخرى تقوم مقام النطق بالشهادتين قبلها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الأحاديث الصحيحة (انظر ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة).
قال ابن أبي العز: “..وهنا مسألة تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلما أم لا؟
والصحيح: أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام” شرح للطحاوية 75.
وعليه فيكفي في حكمنا بإسلام المرء قوله مثلا: أنا مسلم أو بصلاته ونحو ذلك كما هو معروف عند الفقهاء, (انظر إعلان النكير على غلاة التكفير62 فما بعدها).
فالحذر الحذر ممن خاض في هذا الخضم بلا فقه ولا علم, فزخرف القول وزين الكلم!
فها هم الخوارج يصفهم ابن زياد رحمه الله بقوله: “لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع” الكامل للمبرد 2/146.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- والقصد منه أن نجري على المرء أحكام أهل الإسلام ما لم يأتي بناقض محقق وتقوم عليه الحجة ويحكم عليه أهل العلم, فتذكر.
2- أما تحقق ذلك حقيقة (ظاهرا وباطنا( وبقاؤه واستمراره فأمر آخر, فتنبه.