الكفر حقيقته, أقسامه, أنواعه, وأسبابه الحلقة الثالثة

المبحث الأول:

مما لا شك فيه عند أولي المعرفة والنظر: أن الأصل في المسلم السلامة, كما قال العز بن عبد السلام رحمه الله: “الأصل براءة ذمته (أي: المسلم) من الحقوق, وبراءة جسده من القصاص والحدود والتعزيرات, وبراءته من الانتساب إلى شخص معين, ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها” قواعد الأحكام 2/26, وانظر المغني 4/120, وأشباه والنظائر للسيوطي 72, والقواعد المثلى 87.
وعليه كان الأصل في المسلم -كما مر معنا- بقاء إسلامه, “فلا نخرجه منه إلا بيقين, لأن ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين” الشرح الممتع لابن عثيمين 1/289.
وأول ما يجب أن يضبط في ذلك دلالة لفظة الكفر شرعا, مع معرفة حقيقتها وأقسامها وأنواعها وكذا أسبابها, مع التنبه على أن مرد العلم بذلك إلى الشرع لا العقل.
قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
الكفر حق الله ثم رسوله *** بالنص يثبت لا بقول فلان
من كان رب العالمين وعبده *** قد كفراه فذاك ذو الكفران
ولما أورد القاضي عياض رحمه الله في”الشفا” فصلا من المكفرات القولية قال في مطلع هذا الفصل: “اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع, ولا مجال للعقل فيه”.
“وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس, كأبي إسحاق الإسفرييني ومن تبعه, يقولون: (لا نكفر إلا من كَفَّرَنا) فإن الكفر ليس حقا لهم, بل هو حق الله” منهاج السنة 5/244.
ولذلك عني فقهاء الملة بتعداد ما حُكم عليه شرعا من أعمال وأقوال واعتقادات بأنها “كفر” وسطروا ذلك في دواوين الفقه المعروفة وجعلوا ثمة بابا مستقلا سموه بباب “الردة”.
الحقيقة اللغوية والشرعية للفظة “الكفر”
ترجع لفظة الكفر في اللغة من حيث الأصل إلى معنى الستر والتغطية وهو معنى متفق عليه بين أئمة اللغة, يقال للمزارع: الكافر، لأنه يغطي البذر بالتراب, ومنه قيل للكفر الذي هو ضد الإيمان: كفرا لأن في هذا الكفر تغطية للحق بجحد أو غيره, وقيل: سمي الكافر كافرا لأنه قد غطى قلبه بالكفر (انظر لسان العرب, مفردات القرآن, ومعجم مقاييس اللغة, وتاج العرس, المعجم الوسيط).
أما حقيقته الشرعية فمرد ذلك في النص الشرعي إلى خمسة معان ذكرها غير واحد من أهل العلم منهم الإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتابه: “نزهة الأعين النواظر” 516-517 حيث قال حاكيا ذلك عن علماء التفسير: “ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: أحدها الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ”، والثاني: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة: “وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ”، والثالث: التبرؤ، ومنه قوله تعالى في العنكبوت: “ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ”، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة: “فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ”، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد: “أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ”، يريد الزراع الذين يغطون الحب” اهـ.
على أن إطلاق لفظة الكفر كما هو مشهور في عرف الأئمة والفقهاء يقصد بها “الأكبر” حيث يقولون: “كفر فلان” انظر “دروس التكفير” للأسمري.
وحده عندهم (أي: الكفر الأكبر) ما ذكره السبكي رحمه الله حيث قال: “التكفير حكم شرعي, سببه جحد الربوبية والرسالة, أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر, وإن لم يكن جاحدا” فتاوى السبكي 2/586.
أقسام الكفر
لما كان الكفر كالإيمان ذو أصول وشعب متفاوتة, اصطلح أهل العلم على أنه نوعان:
أولا: كفر أكبر مخرج من الملة.
ثانيا: كفر أصغر غير مخرج من الملة.
انظر كتاب الصلاة لابن القيم 53-54, وفتح الباري لابن رجب 1/126, وتعظيم قدر الصلاة للمروزي 2/57, والسلسلة الصحيحة 7/134.
يقول الحكمي رحمه الله: “..ليس كل فسق يكون كفرا, ولا كل ما سمي كفرا وظلما يكون مخرجا من الملة، حتى ينظر إلى لوازمه وملزوماته, وذلك لأن كلا من الكفر والظلم والفسوق والنفاق جاء في النصوص على قسمين:
ـ أكبر يخرج من الملة لمنافاته أصل الدين بالكلية.
ـ وأصغر ينقص الإيمان وينافي كماله, ولا يخرج صاحبه منه, فكفر دون كفر, وظلم دون ظلم, وفسوق دون فسوق, ونفاق دون نفاق” معارج القبول 2/343.
قال الناظم:
والكفر كفران فكفر أكبر *** من دونه كفر ولكن أصغر.
الجوهرة المدنية 52.
ما حقيقة تسمية ما ورد من الذنوب المجردة كفرا؟
معتقد أهل السنة والجماعة عدم التكفير بالذنوب التي هي دون الكفر الأكبر ما لم يستحلها1 .
وعليه كانت القاعدة عند أهل الأثر كما قال الطحاوي رحمه الله: “ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله” العقيدة الطحاوية مع شرحها 355.
على أن الصحيح أن يعبر بقولنا: “لا نكفر بكل ذنب..”, لأنه فرق بين النفي العام ونفي العموم2, والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب. انظر شرح العقيدة الطحاوية 355-356.
ومن ثم فما ورد من الذنوب والمعاصي التي هي دون الكفر الأكبر تسميتها كفرا: نطلق عليها ذلك, لكن لا تحمل على معنى الكفر الأكبر المخرج من الملة إلا في حالة تحقق الاستحلال القلبي, من مثل قوله عليه الصلاة والسلام: “سباب المسلم فسوقه, وقتاله كفر” البخاري.
وقوله عليه الصلاة والسلام: “ثنتان في أمتي هما كفر: الطعن في النسب, والنياحة على الميت” مسلم.
فحقيقة إطلاق لفظة الكفر على هذه الذنوب والمعاصي المجردة إما:
1- أنها خرجت مخرج التغليظ والتشديد.
2- أو لأن في ذلك تشبها بأخلاق الكفار.
3- أو القصد منه كفر النعمة.
قال المباركفوري رحمه الله: “قوله (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا كفر بما أنزل على محمد) الظاهر أنه محمول على التغليظ والتشديد كما قاله الترمذي, وقيل: إن المراد الإتيان باستحلال وتصديق فالكفر محمول على ظاهره, وإن كان بدونهما فهو على كفران النعمة” تحفة الأحوذي 1/335, وانظر شرح مسلم للنووي 2/50, والفتح 10/466, وفيض القدير 6/23, والإيمان لأبي عبيد 84.
وقال أبو عبيد بن سلام رحمه الله: “وأما الآثار المرويات بذكر الكفر والشرك ووجوبهما بالمعاصي فإن معناها عندنا ليست تثبت على أهلها كفرا ولا شركا يزيلان الإيمان عن صاحبه, وإنما وجوهها: أنها من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركون” الإيمان له 43.
فائدة:
من القواعد التي تذكر في هذا الباب ما بينه شيخ الإسلام رحمه الله من أن لفظ الكفر المعرف بـ”ال” الأصل فيه حمله في النصوص الشرعية على الكفر الأكبر حيث قال: “والكفر المعرّف: ينصرف إلى الكفر المعروف, وهو المخرج من الملة” شرح العمدة له, قسم الصلاة 82, وانظر تقريره لذلك كذلك في الاقتضاء 70, وانظر الشرح الممتع 1/289.
على أن ثمة من اعترض على هذه القاعدة بإيراد بعض الآثار عن الصحابة فيها وصف بعض الذنوب المجردة بالكفر معرفا بـ “ال”, ومع ذلك هي عند أهل السنة قاطبة من الكفر الأصغر، كالحديث الذي رواه البخاري 5213 عن ابن عباس وفيه قول امرأة ثابت بن قيس: “ولكني أكره الكفر في الإسلام”, تقصد كفران العشير كما بينه الحافظ في الفتح 9/400.
وكذا ما رواه النسائي في الكبرى 118, وعبد الرزاق في مصنفه 20953 عن ابن عباس أنه قال في إتيان المرأة في دبرها: “ذلك الكفر” وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير 3/181.
قلت: على التسليم بالقاعدة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله بجعل دليلها “الاستقراء الناقص3” (لما ورد من الآثار التي ذكرت آنفا) نقول: “..الكفر (أي: المعرف بـ “ال”) إذا أطلق ولم يوجد له معارض فهو الكفر الحقيقي الأكبر” شرح رياض الصالحين لابن عثيمين 2/376, أي: عند إطلاق لفظة الكفر في النصوص الشرعية بالتعريف يراد بها الكفر الأكبر إلا لقرينة انظر “حكم تارك الصلاة لشيخ الإسلام اين تيمية” لأبي عبد الله النعماني 72, و”سبيل النجاة في بيان حكم تارك الصلاة” لأبي الحسن المأربي 59-الحاشية.
وعليه تصح القاعدة –بناء على ذلك التسليم- فتكون بذلك أغلبية، ولا يضرها ما استثني(4) على حد قول العلماء “من القواعد عدم اطراد القواعد” والله أعلم
مع التنبيه على أن القاعدة التي سطرها شيخ الإسلام جاءت في خصوص المصدر (الكفر) لا اسم الفاعل (الكافر), ففرق بينهما إذ المصدر يدل على الفعل وحده, أما اسم الفاعل فهو دال على الفعل وعلى من قام به فتنبه انظر “الحكم بغير ما أنزل الله مناقشة تأصيلية علمية هادئة” لبندر بن نايف العتيبي 71.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- قال شيخ الإسلام رحمه الله: “والاستحلال اعتقاد أنها حلال له” الصارم المسلول 3/971, وانظر إغاثة اللهفان 1/382.
2- “العام هو اللفظ المستغرق أي: المتناول جميع ما يصلح له بوضع واحد, والعموم هو تناول اللفظ جميع ما يصلح له بوضع واحد, فالعموم مصدر, والعام اسم فاعل” “اتحاف الأنام بتخصيص العام” للحفناوي 23.
3- معناه: “أن يثبت الحكم في الكلي لثبوته في أكثر جزئياته”، انظر نهاية السول 3/144, والابهاج 3/114, وهو حجة عند الجماهير ويعرَّف كذلك بإلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
4- لأن “الغالب الأكثري معتبر في الشريعة اعتبار العام القطعي، لأن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت” الموافقات 2/53

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *