مفهوم المذهب

يقال إن الألفاظ قوالب المعاني، إذ كل لفظ له معنى لغوي استعمل فيه، وقد يكون معنى اصطلاحي انتقل إليه حسب الاستعمال والعلم الذي تعلق به مع بقاء وجه الربط بين المعنيين، وهو ما ينطبق على كلمة مذهب التي لها مدلول لغوي وآخر اصطلاحي.

المذهب لغة واصطلاحا

المذهب في اللغة مصدر ميمي يطلق على الطريق ومكان الذهاب وزمانه قال أحمد الصاوي: “المذهب في الأصل محل الذهاب كالطريق المحسوسة” حاشية الصاوي على شرح الصغير للدردير 1/16. ونقل عند الفقهاء من حقيقته اللغوية إلى الحقيقة العرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة في الأحكام الاجتهادية، فالمذهب المالكي مثلا هو ما ذهب إليه الإمام مالك من الأحكام الاجتهادية استنتاجا واستنباطا. انظر شرح الزرقاني على شرح اللقاني لخطبة المختصر 133, ونور البصر للهلالي 132. ولذلك قال القرافي رحمه الله: “مذهب مالك ما اختص به من الأحكام الشرعية الفروعية الاجتهادية…” الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام 220. وقال الدردير رحمه الله: “مذهب مالك مثلا: عبارة عما ذهب إليه من الأحكام الاجتهادية التي بذل وسعه في تحصيلها” حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1/19.

حقيقة الاجتهاد

الاجتهاد لغة: بذل الوسع والمجهود فهو افتعال من الجهد والطاقة. لسان العرب 3/133 واصطلاحا: قال السبكي رحمه الله: “هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم” جمع الجوامع 2/379. فتبين من ذلك أن الاجتهاد له تعلق بالظنيات لا بالأدلة الصحيحة الصريحات. انظر إرشاد الفحول 370.

قال ابن أبي الأصبع الأندلسي رحمه الله في معالمه:

والاجتهاد إنما يكون  *** في كل ما دليله مظنون

أما الذي فيه الدليل قاطع  *** فهو كما جاء ولا منازع

نقلا عن الصوارم والأسنة 152.

المذهب والأحكام المنصوص عليها

تبين من خلال ما بيناه أن المذهب اصطلاحا له تعلق بالأحكام الظنية المجتهد فيها، فيما لا دليل فيه صريح صحيح، أما ما كان فيه دليل صحيح صريح فلا اجتهاد فيه ولا نظر وهو المعبر عنه بقاعدة: “لا مساغ للاجتهاد في مورد النص”. قال السنوسي رحمه الله: “وإيضاح ذلك أن المجتهد مطلقا كان أو منتسبا إنما له التصرف في الأحكام الظنية فقط مما لا صريح نص في عينها… وأما الأحكام القطعية فالأئمة فيها سواء… فلا تعلق للاجتهاد بها إذ ليست من المجتهد فيه… فالمراد إذن بقطعيتها كونها نصوصا صحيحة صريحة في عين مسائلها…ولا يوصف العامل بها بتقليد ولا اجتهاد كما غلط في ذلك كثير، بل بالإتباع ولو لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد…” المسائل العشر40 وما يليها.

ما دل عليه الدليل الصحيح الصريح أو أجمع العلماء عليه لا ينسب إلا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

بناء على ما مر معنا من أن المذهب اصطلاحا هو ما له تعلق بالأحكام الاجتهادية الظنية فإن الأحكام التي دل عليها الدليل الصحيح الصريح لا يصح -في الأصل- نسبتها إلا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال القرافي رحمه الله: “ينبغي أن يقال: إن الأحكام المجمع عليها لا يقال في شيء منها إنها مذهب الشافعي ولا مالك ولا غيرهما” الإحكام 199. وقال الدردير رحمه الله: “الأحكام التي نُص عليها في القرآن أو في السنة لا تعد من مذهب أحد من المجتهدين” الشرح الكبير1/9.

نعم قد ينسب ما هو منصوص عليه إلى مذهب من المذاهب على أنه يقول بذلك الحكم لا على المعنى الاصطلاحي للمذهب وهذا من باب التسامح فتنبه ففي “هيئة الناسك” لابن عزوز رحمه الله ما نصه: “قولنا في منصوصات الشارع: هذا مذهب فلان فيه تسامح إذ لا ينسب مذهبا لأحد إلا المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع، والمنصوص لا يتفرد به أحد عن الآخر بالإجماع” نقلا عن الصوارم والأسنة 150.

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله في الصوارم والأسنة 151-152:

مذهب مالك إذا قيل المراد *** منه الذي لمالك فيه اجتهاد

وغيره مما عليه نص لا   *** يعد مذهبا له مؤصلا

فعزو مذهب لذي اجتهاد  *** بعد وجود النص ذو فساد

بل كل ما ثبت بالدليل  *** ينسب للإله والرسول

وقال محمد بن عبد الله ولد المختار في نظمه مفتاح الجنة في نصرة السنة والأئمة ص7 عندما ضمن في نظمه أبيات الشنقيطي رحمه الله الآنفة الذكر:

“قلت وما قد قاله محمد  *** هو الجواب الحق نعم السيد

وإن تسل عن الجواب الضابط   *** لا تنس ذا وقله قول ضابط

فذا الجواب من به أجابا  *** ما مذهب الإمام قد أصابا ” اهـ

وعليه فمجال المذهب (اصطلاحا) المسائل الاجتهادية التي تحتملها الأدلة الشرعية والقواعد المرعية لا غير، ومعلوم أنه لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، واجتهاد المرء ليس بقاض على اجتهاد غيره ومن ثم قرر العلماء أنه “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”. ومن ثم فكل ما كان من الأحكام الشرعية منصوصا عليه -صحيحا صريحا لا معارض له- فيجب أن يكون مذهبا للجميع أصلا أو بعد ظهوره وبيانه من باب قول العلماء: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”.

قال ابن عابدين رحمه الله: “نقل العلامة البيري في أول شرحه على الأشباه عن شرح الهداية لابن الشحنة الكبير…ونصه: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيا بالعمل به، فقد صح عن أبي حنيفة أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك الإمام ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة، ونقله الشعراني عن الأئمة الأربعة” شرح عقود رسم المفتي 1/24.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *