من الكلمات المأثورة عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله قوله: “ما جاء عن الله تعالى فعلى الرأس والعينين، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة، وما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم تخيرنا من أقوالهم ولم نخرج عنهم، وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال” الإحكام لابن حزم 4/573، وانظر تاريخ الإسلام 1/1599، والوافي في الوفيات 1/3551، والمبسوط للسرخسي 11/3، في آخرين.
هذه الكلمة فهمت على غير مراد قائلها، ووضعت في غير مجالها، حتى تمسك بها البعض كحجة على النظر والاجتهاد والنقد -وإن كانوا ليسوا بأهل لذلك!- مجارين في ذلك السلف الصالح والعلماء، ومظهرين لأنفسهم على حساب الأئمة والفقهاء!
فعملوا على طرح أقوال السلف الصالح من الصحابة ومن جاء بعدهم بلا حجة ولا دليل ولا برهان بزعم أنهم رجال وهم رجال! كل ذلك بفرض الآراء الشاذة، والأقوال الضعيفة والمذاهب الغريبة!
فنقول: ما دمنا نتكلم عن العلم والفقه في شريعة الإسلام فمن العجيب أن نسوي بيننا وبين سلفنا الصالح في ذلك فها هو الإمام الذهبي رحمه الله يقول: “جزمت بأن المتأخرين على إياس من أن يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة” تذكرة الحفاظ 3/948.
فالمتأمل والناظر في كلمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله يجد أن الإمام عليه الرحمة قبل أقوال الصحابة رضوان الله عليهم بل كان لا يخرج على أقوالهم لإحداث قول ثالث، قال ابن حزم رحمه الله: “وإنما لم ير الخروج عن أقوال الصحابة توقيرا لهم” الإحكام 4/573، مما يدل على أن الإمام قال ما قال في حق التابعين لأمر آخر لا للإعراض عموما عن علم وفقه السلف والإعتماد عموما على علم الخلف، فلا يخفاه رحمه الله فضل علم السلف على الخلف.
قال شيخ الإسلام: “ومن آتاه الها علما وإيمانا علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل” الفتاوي 7/436.
فالإمام أبو حنيفة رحمه الله قال ما قال في حق التابعين لأنهم من أقرانه ونظرائه في العلم والفقه ومن طبقتهم فقد أدرك رحمه الله جمعا من الصحابة منهم أنس بن مالك رضي الله عنه، أنظر شرح مسند أبي حنيفة للقاري 181، والطبقات السنية للشيرازي 1/96.
إذن فلا ضير لمن كان من أقران غيره في الفقه والعلم ومن طبقتهم أن يقول في حقهم “هم رجال ونحن رجال”، بل حقيق به ألا يقلدهم وإنما يأخذ من حيث أخذوا، ولذلك قال السرخسي في المبسوط 6/148 لما أشار إلى كلمة أبي حنيفة: “..لأن أبا حنيفة رحمه الله كان لا يرى تقليد التابعين وكان يقول: هم رجال ونحن رجال”.
فأين حال الإمام أبي حنيفة رحمه الله من حال من جاء في مثل زمننا فيتعالى على سلفنا الصالح رضوان الله عليهم وينبذ علمهم وفقهم ويقول هم رجال ونحن رجال!!
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها القرن الأول ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسم من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر معلوما بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم.. وما أحسن ما قال الشافعي رحمه الله في رسالته: “هم فوقنا في كل علم وعقل ودين وفضل وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا” الفتاوي 4/157-158.