مفهوم الصيام “الصيام لجام المتقين وجنة المحاربين ورياضة الأبرار والمقربين”

الصيام عامة وفي رمضان خاصة ذو أثر مباشر في تهذيب النفس روحيا وخلقيا وعقليا وبدنيا، فيصير الصائم لله تعالى عبدا ربانيا، يحمل مكارم الأخلاق، ويتحلى بعقل راجح وبنيان قوي، فإن الصيام “لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين” زاد المعاد 2/27.

إلا أن هذا الصوم الذي له هذا الأثر ليس إمساكا عن المفطرات الحسية من منكح ومشرب ومطعم -فحسب- من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس مع النية، بل مفهومه الحقيقي وحده الشرعي: الامتناع -كذلك- عن الأمور المعنوية التي تؤثر فيه، فهو صومُ الفرجِ والبطنِ واللسانِ والأذنِ والسمع.. وهكذا دواليك عنْ كلِّ ما حرَّمَ الله تعالى ليلاً ونهاراً.
فهذا الإمساك والصيام هو المعينُ على تقوى الله عزّ وجل دون غيره من امتناع وصيام كثير من الأنام كما قال ابن القيم رحمه الله: “وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة والقوى الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة التي إذا استولت عليها أفسدتها، واستفراغ المواد الرديئة المانعة لها من صحتها، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ويعيد إليها ما استلبته منها أيدي الشهوات، فهو من أكبر العون على التقوى كما قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ” زاد المعاد 2/27.
ليس الصوم الإمساك عن الشهوات بالنهار والانغماس فيها بالليل
لا يتوهمن مسلم أن الصوم هو ما عليه كثير من الناس اليوم من إمساك تقليدي عن بعض الشهوات في النهار، يعقبه انهماك في جميع الشهوات بالليل، فإن الذي تشاهده من آثار هذا الصوم العرفي إجاعة البطن، وإظماء الكبد، وفتور الأعضاء، وانقباض الأسارير، وبذاءة اللسان، وسرعة الانفعال، واتخاذ الصوم شفيعا فيما لا يحب الله من الجهر بالسوء من القول.. وهكذا!!
كلا فإن الصوم -حقا وصدقا- لا يكمل، ولا تتم حقيقته، ولا تظهر حكمته ولا آثاره الطيبة إلا بالفطام عن الشهوات المعنوية والملذات الحسية.
واحذر -في هذا الصدد- الاتكال على تعريف الفقهاء للصوم، وقصرهم إياه على الإمساك عن شهوتي البطن والفرج، فإنه تعريف عرفي، وحد اصطلاحي، قصدهم به بيان حدود صحة الصوم من بطلانه فقهيا فتنبه.
قال بعضهم:
فيا خير شهر لا تلمني لأنني *** أعاني جروحا لا يعالجه الصبر!
أتيت إلينا والكرامات قد خبت *** ومن أين تأتينا وقد أورق الشر؟
نصلي؟ نعم! لكن صلاة بلا تقى *** ونأمر بالفحشاء إذ وجب الطهر!
نصوم؟ نعم! لكن صياما عن القرى *** ولذاتنا تمتد إذ يطلع الفجر!
قال عليه الصلاة والسلام: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” رواه البخاري وغيره.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله: “وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) فمعناه الكراهية والتغليظ (1).. فمن اغتاب أو شهد زورا أو منكرا لم يؤمر بأن يدع صيامه ولكنه يؤمر باجتناب ذلك ليتم له أجر صومه” التمهيد 19/56.
وفي شرح سنن ابن ماجة للدهلوي: “قوله: (من لم يدع قول الزور) هو الكذب والبهتان (والعمل به) أي العمل بمقتضاه من الفواحش وما نهى الله تعالى عنه فلا حاجة لله أن يدع طعامه وشرابه.
قال البيضاوي: المقصود من إيجاب الصوم ومشروعيته ليس نفس الجوع والعطش، بل ما يتبعه من كسر الشهوات وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفس الأمارة للنفس المطمئنة، فإذا لم يحصل له شيء من ذلك ولم يكن له من صيامه إلا الجوع والعطش لم يبال الله تعالى بصومه ولم ينظر إليه نظر قبول..”.
قال عليه الصلاة والسلام: “رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر، ورُبَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش” صحيح الجامع.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله عند هذا الحديث: “وسر هذا: أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله تعالى بترك المباحات كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته، لأن العمل إنما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختص به، هذا هو قول جمهور العلماء.. ولهذا المعنى والله أعلم ورد في القرآن (2) بعد ذكر تحريم الطعام والشراب على الصائم بالنهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل، فإن تحريم هذا عام في كل زمان ومكان، بخلاف الطعام والشراب فكان إشارة إلى أن من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل فإنه محرم بكل حال لا يباح في وقت من الأوقات” لطائف المعارف 168.

الصائمون حقيقة
الصائم -حقيقة- هو الذي صامت جوارحه عن الآثام، ولسانه عن الكذب والفحش وقول الزور، وبطنه عن الطعام والشراب، وفرجه عن الرفث، فإن تكلم لم يتكلم بما يجرح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعا صالحا، وكذلك أعماله فهي بمنزلة الرائحة التي يشمها من جالس حامل المسك، كذلك من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم. هذا هو الصوم المشروع لا مجرد الإمساك عن الطعام والشراب.
وقال جابر: “إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
قال بعض السلف: ” أهون الصيام ترك الشراب والطعام”.
قال بعضهم:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون وفي بصري غض وفي منطقي صمت
فحظي إذاً من صومي الجوع والظمأ فإن قلت إني صمت يومي صمت
فمن يصوم عند صيامه عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى ويحفظ البطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا ثم يستمر على ذلك، فهذا عيد فطره حقيقة يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته.
قال بعضهم:
أهل الخصوص من الصوام صومهم *** صون اللسان عن البهتان والكذب
والعارفون وأهل الأنس صومهم *** صون القلوب عن الأغيار والحجب
وقال آخر:
وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي
قال العلامة البشير الإبراهيمي رحمه الله: “الصوم.. مقاومة عنيفة لسطان الشهوات الجسمية ومقاوم الشهوات في نفسه.. وصورته الكاملة فطم عن شهوات البطن والفرج واللسان والأذن، وكل ما نقص من أجزاء ذلك الفطام فهو نقص في حقيقة الصوم، كما جاءت بذلك الآثار الصحيحة عن صاحب الشريعة، وكما تقتضيه الحكمة الجامعة من معنى الصوم.. فصوم رمضان محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبد في صورته العليا، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريب منظم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكمه في أهوائها، وضبطه بالجهد لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها، وتربية عملية لخلق الرحمة بالعاجز المعدم، فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع، ولما تصوروا ما يفعله الجوع بالجائعين..
ورمضان نفحة إلهية تهب على العالم الأرضي في كل عام قمري مرة، وصفحة سماوية تتجلى على أهل الأرض، فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه، ومن لطائف الإسلام حكمته وسره، فلينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة؟ وأين مكانهم في تلك الصفحة؟..” عيون البصائر له رحمه الله 531- 532.

1 – قال الحافظ ابن حجر رحمه الله عند هذا الحديث: “والجمهور وإن حملوا النهى على التحريم إلا أنهم خصوا الفطر بالأكل والشرب والجماع” الفتح 4/104.
2 – إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة : “أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ..” الآية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *