ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن

لا زال بعض أهل البدع، ومن لم يحقق النظر في قضية البدعة والابتداع على الاعتقاد في وجود البدع الحسنة في الدين والقول بها، مستدلين بجملة من الأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضوان الله عليهم قد حمولها على غير المراد منها.
ومن ذلك ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيء”.
والاستدلال بهذا الحديث خطأ بين من جهتين: جهة نسبته ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجهة دلالته على المطلوب.
أما الجهة الأولى: قال العجلوني رحمه الله: “رواه أحمد في كتاب السنة وليس في مسنده كما وهم” كشف الخفاء 2/245.
وقد تبع العجلوني في هذا السخاوي في المقاصد الحسنة رقم 959، وهما الواهمان، فإن الحديث في مسند الإمام أحمد رحمه الله انظر 1/379، لكن لا تصح نسبته إليه صلى الله عليه وسلم من جهة الصناعة الحديثية، فلا يصح الاستدلال به مرفوعا وإن كان القاري رحمه الله في الموضوعات الكبرى 106 قال: “صح مرفوعا وموقوفا”!.
فقد أغرب بقوله هذا فإن عامة حفاظ الأثر على أن هذا الحديث إنما يصح موقوفا فقط من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
قال ابن القيم رحمه الله: “إن هذا الحديث ليس من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما يضيفه في كلامه من لا علم له في الحديث وإنما هو ثابت عن ابن مسعود” الفروسية 60.
وصرح الزيلعي رحمه الله بأن الحديث غريب مرفوعا كما في نصب الراية 4/133.
وقال السخاوي رحمه الله: “وهو موقوف حسن” المقاصد الحسنة رقم 959، وقال ابن عبد الهادي: “والأصح وقفه على ابن مسعود” انظر كشف الخفاء 2/263، وانظر السلسلة الضعيفة 2/17.
وأما الجهة الثانية فنقول: إذا كان الحديث لا يصح مرفوعا فلا يجوز أن يحتج به في معارضت الأحاديث المرفوعة القاطعة في أن البدع والمحدثات كلها من مثل قوله صلى الله عليه في الحديث الصحيح: “كل بدعة ضلالة”.
وعلى فرض صحة الحديث مرفوعا، فإن “ال” في كلمة “المسلمون”، إن كانت للاستغراق فهي شاملة للمسلمين جميعا، وعليه يكون الحديث واردا في إجماع المسلمين، وما أجمعت الأمة على حسنه فيكون عند الله حسنا وحقا وحجة لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وبهذا صرح الآمدي رحمه الله قائلا: “ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن إشارة إلى إجماع المسلمين، والإجماع حجة ولا يكون إلا عن دليل وليس فيه دلالة على أن ما رآه آحاد المسلمين حسن يكون حسنا عند الله، وإلا كان ما رآه آحاد العوام من المسلمين حسن فهو حسن عند الله، وهو ممتنع” الأحكام 3/138، وقال بهذا الكلام نفسه ابن القيم رحمه الله في الفروسية 60، وابن قدامة رحمه الله في روضة الناظر 86، والشاطبي رحمه الله في الاعتصام2/130، في آخرين.
ومما يؤكد هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة الفحول سياق الحديث حيث ورد فيه عند الحاكم رحمه الله: “وقد رأى الصحابة جميعا أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه”.
ولذلك استدل ابن كثير وابن القيم وابن تيمية رحمهم الله على إجماع الصحابة على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه.
وقد يقال كذلك أن المراد بالمسلمين في الحديث هم المجتهدون لا مطلق العوام بدليل كلمة “رآه”.
ذلك أن الرأي في عرف الصحابة ما يراه القلب بعد التفكر والتدبر وطلب الصواب مما تتعارض فيه الأمارات وذلك كالاستنباط من طريق القياس والمصلحة وسد الضرائع وهذا لا يكون إلا لمن وصل درجة الاجتهاد، وهذا توجيه وجيه فتأمل (انظر العرف والعمل في المذهب المالكي 61).
وعلى القول بأن الحديث يقصد به آحاد المسلمين أو بعضهم فيحمل لزوما على استحسان ما جرى به عرف من الأعراف التي تختلف بإختلاف الزمان والمكان من باب القاعدة المجمع عليها: “العرف محكم”، لا فيما يخالف الشرع وينابذ السنة فتنبه.
ولذلك استدل البعض بالحديث على قاعدة اعتبار العرف والعادة، وهذه الأخيرة صحيحة بضوابطها المقررة، لكن الاحتجاج بالحديث على تقرير ذلك فيه نظر والله أعلم (انظر العرف والعمل في المذهب المالكي 59 فما بعدها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *