الكفر حقيقته وأقسامه وأنواعه وأسبابه الحلقة الرابعة

الفصل الثاني

اصطلح أهل العلم من أهل السنة على تقسيم الكفر شرعا إلى أكبر وأصغر -كما مرَّ معنا-, وهذا باعتبار النظر إلى موجباته من الخلود أو الوعيد, كما اشتهر عند كثير منهم تقسيم الكفر إلى اعتقادي وعملي, وهذا باعتبار صورته من جهة الاعتقاد والعمل.
فجعلوا (الكفر الاعتقادي) هو (الأكبر) و(العملي) هو (الأصغر) انظر الصلاة وحكم تاركها لابن القيم 55-56, والوجيز في عقيدة السلف الصالح 119, والغلو في التكفير المظاهر الأسباب العلاج 46.
ومراد هؤلاء العلماء بالكفر العملي (الكفر الأصغر) ما يتعلق بالمعاصي التي لا تُخرج من الملة كما بيَّنوا ذلك عند تفسيرهم للنصوص التي فيها اطلاق الكفر على بعض الذنوب المجردة, فيقولون: هذا من الكفر العملي, وليس من الكفر الاعتقادي, ردًا على الخوارج الذين يستدلون بتلك النصوص على تكفير مرتكب الكبيرة. (انظر ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة 7).
ولم يَرِد في خَلد هذا الصنف من أهل العلم الذين أطلقوا على (الكفر الأصغر) مصطلح (الكفر العملي) أنه لا يكون كفر أكبر بالعمل كما سيأتي بيانه وتقريره, وإنما قصدهم بالكفر العملي (الكفر الأصغر): (العملي المحض)1 الذي لم يستلزم الكفر في الباطن.
قال العلامة حافظ حكمي رحمه الله: “نحن لم نعرف (الكفر الأصغر) بـ (العملي) -مطلقا-, بل: بالعملي المحض, الذي لم يستلزم الاعتقاد ولم يناقض قول القلب, وعمله” أعلام السنة المنثورة 182.
وعليه فجعلهم الكفر الأكبر هو الكفر الاعتقادي -مع إثبات وجود الكفر الأكبر بالعمل- لأن “ما كان كفرا من الأعمال الظاهرة فإنما يُنبِئ عمَّا في القلب من الكفر”2 , وهذا راجع إلى القاعدة المقررة عند أهل السنة وهي: قاعدة التلازم3 بين الظاهر والباطن. (انظر الفتاوي 7/616, 14/12،7/582, والصلاة وحكم تاركها 54، والموافقات 1/367, ومقدمة رياض الصالحين بتحقيق الشيخ الألباني).
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وما كان كفرا من الأعمال الظاهرة كالسجود للأوثان وسبِّ الرسول ونحو ذلك فإنما ذلك لكونه مستلزما لكفر الباطن” الفتاوي14/120.
ومِن ثم فمَن أطلق مِن أهل العلم أن “الكفر الذي يخرج صاحبه من الملة إنما هو الكفر القلبي” أو قال: “إنه لا كفر إلا بالاعتقاد” مع إثبات أن الكفر كما يكون بالإعتقاد يكون بالقول والعمل4, يجب -لزاما- أن يُفهم كلامه ذاك في ضوء ما بُيِّن آنفا.
وها هو ذا شيخ الإسلام الإمام رحمه الله قد أطلق رجوع الكفر إلى الإعتقاد وإلى ما في القلب حيث قال: “من ترك الأعمال شاكرا بقلبه ولسانه، فقد أتى ببعض الشكر وأصله.
والكفر إنما يثبت إذا عدم الشكر بالكلية.
كما قال أهل السنة: إن من ترك فروع الإيمان لا يكون كافرا حتى يترك أصل الإيمان, وهو الاعتقاد” الفتاوي 11/138.
وقال كذلك رحمه الله: “ولكنا نقول: للإيمان أصل وفرع, وضد الإيمان الكفر في كل معنى، فأصل الإيمان الإقرار والتصديق, وفرعه إكمال العمل بالقلب والبدن, فضِدُّ الإقرار والتصديق الذي هو أصل الإيمان: الكفرُ بالله وبما قال, وترك التصديق به وله، وضد الإيمان الذي هو عمل, وليس هو إقرار: كفرٌ ليس بكفر بالله يُنقل عن الملة ولكن كفر تضييع العمل” الفتاوي 7/324-425.
وليس في هذا الذي قرِّر موافقة لمذهب المُرجئة كما يزعم البعض! لأنه “فرق بين من يقول: هذا العمل -أو القول- كفر, لكذا, وبين من يقول: هذا ليس كفرا, لكنه دليل أو علامة على الكفر.
فالأول: يثبت الكفر, ويعلله5.
والثاني: ينفي الكفر, ويثبت دليله أو علامته6” التوسط والاقتصاد 21.
وهذا من دقائق الفروق بين مذهب أهل السنة والمرجئة في هذا المقام فتأمل ولا تعجل ودقق النظر فمن “دقق النظر في مثل هذه الأبواب استراح”.
وبعض أهل العلم قد يصطلح على (الكفر الأصغر) الذي هو (عملي) بـ(الكفر العملي), و(الكفر الأكبر) الذي هو (عملي) بـ (الكفر بالعمل).
وبعضهم جعل كفر العمل على قسمين:
ـ ما يضاد الإيمان من كل وجه (الكفر الأكبر).
ـ ما لا يضاده, بل ينقصه (الكفر الأصغر).
كما صنع ذلك ابن القيم رحمه الله حيث قال: “وأما كفر العمل: فينقسم إلى ما يضاد الإيمان, وإلى ما لا يضاده.
فالسجود للصنم, والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان 7 .
وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا، ولا يمكن أن ينفى عنه اسم الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه” الصلاة وحكم تاركها 55.
إذن فكما هو واضح فكل هذا الخلاف لا يَعْدُو أن يكون خلافا لفظيا8, كان ولا بد من إيضاحه حتى يظهر المقصود، وينجلي الأمر، ونتصور الحقائق، ونفهم كلام أهل السنة، ونحمل إطلاقاتهم على وجهها الصحيح حتى لا ننسب إلى أحدهم ما هو براء منه.
وقد صدق ابن القيم رحمه الله حيث قال: “ما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة” المدارج 2/431.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم, وما تقتضيه أصولهم يَجرُّ إلى مذاهب قبيحة”.
مع أن الأصل -خاصة في مثل هذه الأبواب- هو توضيح العبارات، والبعد عن الألفاظ المجملات، والكلمات المطلقات قدر الإمكان، حتى لا يقع اللبس والإيهام والإشكال.
قال ابن القيم رحمه الله:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ *** إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ *** أذهان والأراء كل زمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- فلا يصير كفرا أكبر إلا بالاستحلال القلبي.
2- ولم نقل “ما كان كفرا من الاعمال الظاهرة فإنما ينبئ عما في القلب من التكذيب” فهذا مذهب المرجئة لحصرهم الكفر في التكذيب فتنبه.
3- لا التطابق -فهو هنا باطل- فتأمل, لأن العلاقة بين الظاهر والباطن في هذا المقام -عند أهل السنة- قائمة على جزئي: الانتفاء (العدم), والضعف.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم” الفتاوي 7/294, وقال كذلك في 7/234: “فإذا لم يحصل اللازم: دلَّ على ضعف الملزوم”.
4- أي: القول الكفري نفسه: كفر, والعمل الكفري نفسه: كفر.
5- هذا مذهب أهل السنة السنية.
6- هذا مذهب المرجئة الردية.
7- أي من كل وجه فتأمل.
8- قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فلا يجوز أن تلقى الفتنة بين المسلمين بأمر محدث, ونزاع لفظي لا حقيقة له” الفتاوي 3/404.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *