التكفير كالإيجاب والتحريم، والثواب والعقاب هو إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد في هذا حكم.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل، فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا..” (منهاج السنة 5/95).
ولذلك كان من أهم ما يجب أن يضبط في هذا الباب الكشف عن حقيقة الكفر شرعا وبيان أقسامه وإيضاح المخرج منه من الملة من غيره مع تحديد أسبابه وأنواعه حتى يكون حكمنا على الشيء بأنه كفر أكبر.. موافقا لما جاء في الشرع الحكيم، وقد مضى معنا بيان ذلك بحمد الله تعالى.
التكفير المطلق والتكفير المعين
إلا أن إسقاط الكفر على الأعيان مع وقوعهم فيما هو كفر شرعا ليس بلازم دائما، لما يعرض لهذا المعين من موانع تجعله لا يؤاخذ بذلك وإن تلبس به، وهذا ما يسمى عند الأصوليين بـ “عوارض الأهلية” (أنظر التقرير والتحرير 2/230، وتيسير التحرير 2/258، وشرح التلويح على التوضيح 2/348).
مع العلم أن هذا لا يعني ترك إطلاق الكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد الذي دلَّت النصوص الشرعية أو الإجماع على أنه كذلك.
ومن ثم فرق أهل السنة بين التكفير المطلق (كفر النوع أو الفعل)، وتكفير المعين (كفر العين أو الفاعل).
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وتكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.. والدليل على هذا الأصل: الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار” (الفتاوي 12/487-489).
وقال العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله في خصوص ذلك حاكيا عن شيخ الإسلام: “المقصود أن مذاهب الأئمة مبنية على هذا التفصيل بالفرق بين النوع والعين” (محاسن التأويل 5/133، وانظر درء الفتنة للشيخ بكر أبو زيد ص:58).
وهذه القاعدة الأصيلة مبنية على أصل شرعي قائم بذاته وهو أن التكفير العام كالوعيد العام يجب القول بإطلاقه وعمومه، وأما الحكم على المعين بأنه كافر أو مشهود له بالنار فهذا يقف على الدليل المعين. (أنظر الفتاوي 12/498).
ومما يعتمد عليه في صحة هذا التفريق ما جاء في البخاري عن عمر رضي الله عنه أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم اسمه عبد الله وكان يلقب حمارا، وكان يُضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر بجلده فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تلعنه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فنهى عن لعنه مع إصراره على الشرب، لكونه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه لعن في الخمر عشرة.. ولعن المطلق لا يستزم لعن المعين الذي قام به ما يمنع لُحوق اللعنة به، وكذلك التكفير المطلق والوعيد المطلق..” الفتاوي 10/329.
ومن ذلك -كذلك- ما ورد في حديث صاحب الوصية الجائرة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “..فإن التكفير المطلق مثل الوعيد المطلق، لا يستلزم تكفير المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها، كما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي قال: “إذا أنا مت فاحرقوني، ثم اسحقوني، ثم ذروني في اليمّ فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.. فقال الله له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: خشيتك فغفر له، فهذا الرجل اعتقد أن الله لا يقدر على جمعه إذا فعل ذلك أو شكّ وأنه لا يبعثه وكل من هذين الاعتقادين كفر يكفر من قامت عليه الحجة، لكنه كان يجهل ذلك ولم يبلغه العلم بما يرده عن جهله، وكان عنده إيمان بالله وبأمره ونهيه ووعده ووعيده، فخاف من عقابه فغفر الله له بخشيته” (الاستقامة 1/163-166).
وكتطبيق عملي لهذا التفريق، فقد ورد عن السلف والأئمة تكفيرهم لبعض فرق أهل البدع فإن صنيعهم ذاك من باب تكفير المطلق ولا يلزم منه تكفير كل أفراد تلك الفرق.
مثال ذلك تكفيرهم للجهمية والقدرية كما ورد عن سلام بن أبي مطيع فيما رواه الدارمي في الرد على الجهمية 111 وغيره، وعن الإمام أحمد كما في السنة للخلال 529 وغيرهما.
قال محمد صديق حسن خان رحمه الله: “تسجيل أهل السنة على بعض الفرق بأن عقيدتها كفر، والقول الفلاني كفر، ويصير المرء بالقول الفلاني كافرا -مثلا-، فهذه رواية منهم لما ورد عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم.. ولا ينصون على شخص واحد ورجل خاص أنه كافر أو في النار” الدين الخالص 3/418-419، وانظر الفتاوي 3/230.
إطلاق القول بتكفير المعين
ومن الأفهام الخاطئة ما فهمه البعض من تكفير الأعيان بإطلاق دون تفريق بين الفعل والفاعل ودون التحقق من توفر الشروط وزوال الموانع، من خلال ما نقل عن بعض الأئمة من تكفيرهم لبعض المعينين من ذلك ما نقل عن الإمام أحمد والشافعي عليهما رحمة الله.
أما في خصوص أحمد رحمه الله فقد قال شيخ الإسلام رحمة الله: “..وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر.. قوما معينين، فإما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر؟ أو يحمل الأمر على التفصيل فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ، ومن لم يكفر بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم” الفتاوي 12/477-479.
أما في خصوص ما نقل عن الشافعي رحمه الله مع حفص الفرد لما ناظره فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال له الشافعي: “كفرت بالله العظيم” أنظر السنن الكبرى للبيهقي 10/206 وغيره.
فهذا الصنيع من الإمام الشافعي قد حمله الأئمة على غير ما هو ظاهر، وهذا باعتبار عدم تحقق الشروط وانتفاء الموانع في حق حفص الفرد:
1- أن الشافعي أراد أن قوله كفر.
قال شيخ الإسلام: “بين لنا أن هذا القول كفر، ولم يحكم بردة حفص بمجرد ذلك لأنه لم يتبين له الحجة التي يكفر بها..” الفتاوي 12/489.
2- أنه قال ذلك من باب التغليظ.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: “..فإذا رأيت إماما قد غلظ على قائل مقالته أو كفره فلا يعتبر هذا حكما عاما في كل من قالها..” الفتاوي 6/61.
3- أنه يعني: كفرا دون كفر.
قال البغوي رحمه الله تعالى: “وأجاز الشافعي شهادة أهل البدع والصلاة خلفهم مع الكراهية على الإطلاق، فهذا القول منه -يعني كفر حفص الفرد- دليل على أنه إن أطلق على بعضهم اسم الكفر في موضع أراد به كفرا دون كفر” (شرح السنة 1/288، وانظر معرفة السنن والآثار للبيهقي 1/191).