دين الله جل وعلى بين الغالي فيه والجافي عنه وخير الناس النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المُفَرِّطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين.
قال وهب بن منبه رحمه الله:” إن لكل شيء طرفين ووسطا, فإذا أمسك بأحد الطرفين مال الآخر وإذا أمسك بالوسط اعتدل الطرفان فعليكم بالأوساط من الأشياء”. اهـ أخرجه أبو يعلى في المسند وأبو نعيم في الحلية.
قال بعضهم:
عليك بأوساط الأمور فإنها *** نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
لكن العجيب أن الكل يدعي الوسطية لنفسه:
فالخارجي يدعي أن مذهبه وسط!!.
والمرجئي يدعي أن مذهبه وسط!!.
والعقلاني يدعي أن مذهبه وسط!!.
وكذلك العلماني يدعي أن منهجه وسط!!.
بل تجد كل صاحب هوى يدعي أن طريقته وسط!! حتى انتشر في كثير من الكتابات المعاصرة حالة تكون على التوفيق بين السنة والبدعة بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي: السنة والشيعة والنصرانية والإسلام كل ذلك بزعم التمسك بالوسطية!!
حقيقة الوسطية
لغة: قال ابن فارس رحمه الله: “الواو والسين والطاء بناء صحيح يدل على العدل والنَّصَف, وأعدل شيء: أوسطه ووسطه” معجم مقاييس اللغة 6/108.
أما شرعا: فالوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.
ولذا كان من سلم لله ورسوله عليه الصلاة والسلام وعمل بما ورد في القرآن وصحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وسار على نهج السلف الكرام في العقائد والشرائع فهو من أهل الوسطية والاعتدال، وكل من تعدى حدود الشرع أو قصر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب تجاوزه أو تقصيره.
قال تعالى: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” البقرة 143
قال ابن كثير رحمه الله : “ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: “هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ” الحج : 78 “تفسير القرءان العظيم” 1/191.
ومن ثم نقول: ليس الوسط أن يأخذ المرء من ها هنا, ومن ها هنا, حتى يخرج بقول رابع ليس هو من الحق الخالص ولا هو- في نفسه- إلى مقالة هؤلاء ولا إلى مقولة أولئك!!.
وسط فضفاض!! تخترعه العقول والأهواء بالأماني فهذا عن الهدى بعيد وصاحبه عن طريق الحق شريد..
فالوسطية الحقة – إذن- تعرف وتتميز عن غيرها بطاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام والتسليم لهما ظاهرا وباطنا دون تقصير مرير, ولا غلو خطير.
قال ابن القيم رحمه الله: “والفرق بين الاقتصاد والتقصير أن الاقتصاد هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وله طرفان هما ضدان له تقصير ومجاوزة فالمقتصد قد أخذ بالوسط وعدل عن الطرفين قال تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ” وقال تعالى: “وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ” وقال تعالى: “وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُوا”،ْ والدين كله بين هذين الطرفين بل الإسلام قصد بين الملل، والسنة قصد بين البدع، ودين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكذلك الاجتهاد هو بذل الجهد في موافقة الأمر، والغلو مجاوزته وتعديه، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: فإما إلى غلو ومجاوزة، وإما إلى تفريط وتقصير، وهما آفتان لا يخلص منهما في الاعتقاد والقصد والعمل إلا من مشى خلف رسول الله وترك أقوال الناس وآراءهم لما جاء به، لا من ترك ما جاء به لأقوالهم وآرائهم، وهذا أن المرضان الخطران قد استوليا على أكثر بني آدم، ولهذا حذر السلف منهما أشد التحذير، وخوفوا من بُلِي بأحدهما بالهلاك، وقد يجتمعان في الشخص الواحد كما هو حال أكثر الخلق، يكون مقصرا مفرطا في بعض دينه غاليا متجاوزا في بعضه والمهدي من هداه الله” الروح 346-347.
قال أبو عبيد رحمه الله في معرض الحديث عن خيرية الوسطية: “ومنه حديث أبي موسى, في حامل القرآن غير الغالي فيه, ولا الجافي عنه, فالغالي: المُفْرِطُ في اتباعه حتى يخرجه إلى إكفار الناس, مثل الخوارج, والجافي عنه: المضيع لحدوده, المستخف به” الأمثال173.
قال بعضهم:
لا تذهبن في الأمور فرطا *** لا تسألن إن سألت شططا
وكن من الناس جميعا وسطا