العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق

الإفتاء منصب عظيم وكبير وهو -في الوقت نفسه- شرف لمن يقوم به ومسؤولية عليه أيضا, ولذلك الله جل وعلا تولى الإفتاء بنفسه في مواضع من كتابه, ومن ذلك قوله تعالى: “يستفتونك قل الله يفتيكم” فأفتى عز وجل بنفسه ونسب الإفتاء لذاته العلية المقدسة.
وعليه كان السلف الصالح يدرؤون الفتيا عن أنفسهم ما استطاعوا، ويحاولون أن يتخلصوا منها ويسندوها إلى غيرهم, ولقد أورد الدارمي رحمه الله في سننه آثارا كثيرة في خصوص ذلك تحت باب “باب من هاب الفتيا” من ذلك: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من الأنصار ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ودَّ أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا” سنن الدارمي 1/49.
فتبين أن منصب الإفتاء عظيم وله من الأهمية العظيمة ما له، كيف لا والمفتي في أحكام الدين لا يعطي رأيه الخاص, ولا وجهة نظره الشخصية إنما يُبيِّن حكم الله أو حكم رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذن فالمفتي موقع عن رب العالمين, ومن هذا المنطلق قال ابن القيم رحمه الله: “إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله, ولا يجهل قدره, وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات” إعلام الموقعين 1/10. وانظر الأحكام للقرافي رحمه الله 29.
ومن ثم نص العلماء على إيجاب التثبت والتأني والتشاور وتقليب أوجه النظر في إصدار الفتاوي, وعدم التسرع والتعجل في ذلك, فعن ابن وهب رحمه الله قال: “سمعت مالكا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق, وكان يقال: التأني من الله, والعجلة من الشيطان وما عجل امرؤ فأصاب, واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أصوب رأيا، ولا عجل امرؤ فأخطأ واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أيسر خطأ” المدخل إلى السنن للبيهقي, وإعلام الموقعين.
وقال أبو عثمان الحداد رحمه الله: “ومن تأنى وتتبث تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة”. جامع بيان العلم وإعلام الموقعين.
ومن الأئمة الأعلام الذين اشتهر عنهم أدب التأني في باب الإفتاء: الإمام مالك رحمه الله, حتى أنه كان يقول: “ربما وردت علي المسألة تمنعني من الطعام والشراب والنوم, فقيل له: يا أبا عبد الله والله ما كلامك عند الناس إلا نقر في حجر, ما تقول شيئا إلا تلقوه منك, قال: فمن أحق أن يكون هكذا إلا من كان هكذا.
وقال: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة فلم يتفق لي فيها رأي إلى الآن.
وقال: ربما وردت علي المسألة فأسهر فيها عامة ليلتي.
وكان إذا سئل عن المسألة قال للسائل: انصرف حتى انظر فيها,, فينصرف ويتردد فيها, فقيل له في ذلك, ففكر وقال: إني أخاف أن يكون لي من المسائل يوم وأي يوم. قال سحنون: قال مالك يوما: اليوم لي عشرون سنة وأنا أتفكر في هذه المسألة” انظر ترتيب المدارك 1/177, والموافقات 4/286.
بل من الخصال العظيمة التي تميز بها الإمام عليه رحمة الله أنه كان في تحريه في الفتوى وعدم استعجاله يسأل عنها أهل العلم في زمانه.
فقد جاء في الموطأ: فأما أن يشتري بالذهب التي باع بها الحنطة إلى أجل تمرا من غير بائعه الذي باع منه الحنطة قبل أن يقبض الذهب, ويحيل الذي اشترى منه التمر على غريمه الذي باع منه الحنطة بالذهب التي له عليه في ثمن التمر, فلا بأس بذلك.
قال مالك: وقد سألت عن ذلك غير واحد من أهل العلم فلم يروأ به بأسا. الموطأ – تنوير الحوالك 2/142.
فالحذر الحذر من التعجل والتسرع في الإفتاء فإنه باب عظيم وقف عنده النجباء والنبلاء.
وصدق أحد كبار تلاميذ الإمام مالك رحمه الله وهو الإمام سحنون التنوخي رحمه الله حيث قال مرة: “سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال” تنوير الحوالك 4/75.
قلت: فكيف بسرعة الجواب بما خالف السنة والكتاب فاللهم غفرانك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *