قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ” ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة” رواه ابن عبد البر في جامعه 2/902، وانظر الفتاوي 30/80.
استدل بعض الناس بهذه المقولة على أن كل قول محكي عن السلف والعلماء في الشريعة فهو مقبول، من باب أن هذا من رحمة الله على العباد، وأنه توسعة على المكلفين، بغض النظر عن نوع الخلاف، هل مما يستساغ شرعا أو لا؟ وبِغض النظر هل بين هذه الأقوال تعارض تام أو لا؟ ومن غير مراعاة في القول هل وافق الكتاب والسنة أو خالفهما؟.
مع العلم أن العلماء رحمة الله عليهم قد حملوا قولة عمر بن عبد العزيز على مسائل الاجتهاد خاصة، أو ما يعرف عند أهل العلم بالخلاف السائغ، وهو: كل ما لم يقم عليه دليل قاطع من نص صحيح أو اجماع صريح، ويكون ذلك -كذلك- في المتشابه الذي يقبل تعدد الأفهام والتفسيرات، ويكون ذلك في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات. انظر الاعتصام 2/168، والموافقات 4/155.
ولذلك قال الحافظ بن عبد البر رحمه الله معلقا على كلمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: “هذا فيما كان طريقه الاجتهاد” جامع بيان العلم 2/902.
وقال إسماعيل القاضي رحمه الله: “إن التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي، أما أن يكون توسعة بأن يقول الناس بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه: فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا”.
قال ابن عبد البر معلقا: “كلام إسماعيل هذا، حسن جيد” جامع بيان العلم 2/907.
إذن فوصف الخلاف والاختلاف بالتوسعة أو الرحمة محمول على الخلاف الاجتهادي لامطلق الخلاف، كما قيل:
ليس كل خلاف جاء معتبرا ** إلا خلاف له حظ من النظر
قال الزركشي رحمه الله: ” اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة بل جعلها ظنية قصدا للتوسيع على المكلفين، لئلا ينحصروا في مذهب واحد بقيام الدليل القاطع” انظر تسهيل الوصول للمحلاوي 240.
وها هو شيخ الإسلام رحمه الله احتج بكلمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله في سياق الحديث عن المسائل الاجتهادية الظنية حيث قال في معرض الجواب عمن منع الناس من فعل شيء الخلاف فيه سائغ: “ليس له منع الناس من مثل ذلك، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد… ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على موطئه في مثل هذه المسائل منعه من ذلك وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم.
وصنف رجل كتابا في الاختلاف، فقال أحمد: لا تسمه كتاب الاختلاف، ولكن سمه كتاب “السعة”.
ولهذا كان بعض العلماء يقول: إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة (ثم ذكر كلمة عمر بن عبد العزيز)” الفتاوي 30/79-80.
فكلمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله محمولة -إذن- على الأمر الإجتهادي السائغ الذي قاله عالم جليل، واحتمله الدليل، ووافق القواعد والتأصيل.
أما ما دل عليه الدليل الصحيح الصريح فلا يجوز مخالفته.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “إذا تنازع المسلمون في المسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه” الفتاوي 19/67.
فالحذر الحذر من الفهم الخاطئ الذي حملت عليه كلمة عمر بن عبد العزيز لإنه فهم سقيم سقيم، وسبب للقول بمذهب ردي يعرف عند العلماء بمذهب المصوبة الذي قال فيه أبو إسحاق الإسفرائيني رحمة الله عليه: “أوله سفسطة، وآخره زندقة” السير 17/355.
بالإضافة إلى أن هذا الفهم يفضي إلى تتبع رخص المذاهب أو اختيار الأيسر مطلقا من غير استناد إلى دليل شرعي، وقد حكى ابن حزم رحمه الله الاجماع على أن ذلك فسق لا يحل، انظر الموافقات 4/143.
كما يفضي إلى اختيار الأشد مطلقا، أو ما عليه الأكثر أو نحو ذلك، دون دليل شرعي.