سبق أن بينا أن العذر بالجهل عموما في مسائل التوحيد والعقيدة خصوصا: أصل شرعي دلَّ عليه الكتاب والسنة والإجماع، إلا أن بعض أهل العلم جرى على ألسنتهم إطلاق عدم العذر في هذا الباب، وقد حمل كلامهم على عدة محامل منها:
1- أن الجاهل الذي لا يعذر هو المفرط المقصر(1) (انظر شرح كشف الشبهات لابن عثيمين 46 والتعليقات على كشف الشبهات لطلعت مرزوق 120).
2- لا يعذر الجاهل بجهله بعد إقامة الحجة، أو تكون الحجة قائمة. (انظر نواقض الإيمان الاعتقادية للوهيبي 1/27، ومجالس تذكيرية لمحمد علي فركوس 49).
3- أن ذلك من باب التغليظ في الإنكار (انظر نواقض الإيمان للوهيبي، وسعة رحمة رب العالمين 50 حاشية، والتعليقات على كشف الشبهات 120).
4- أن القصد بذلك صاحب الجهل الناشئ جهله عن الإعراض عن الحجة (انظر التعليقات على كشف الشبهات 121).
حكم الجهل الذي يمكن للمكلف دفعه
الجهل ليس صفة ملازمة للإنسان في كل أحواله، بل من الجهل ما يكون الإنسان هو السبب في بقائه عليه، وذلك بتقصيره في محاولة إزالته بالتعلم.
قال ابن اللحَّام رحمه الله: “إذا قلنا إن الجاهل يعذر، فإنما محله إذا لم يقصِّر ويفرِّط في تعلم الحكم، أما إذا قصَّر أو فرَّط فلا يعذر جزما” (القواعد والفوائد الأصولية 58).
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “وأما القادر على التعلم المفرط فيه، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي فهذا ليس بمعذور” (أضواء البيان 7/357، وانظر الشرح الممتع لابن عثيمين 6/193-194).
إذن فحكم الجهل الناشئ عن التقصير والتفريط يغاير حكم الجهل الذي يعذر به صاحبه، فإن التكليف عموما منوط بالقدرة كما هو مقرر في علم الأصول فإنه “لا تكليف إلا بمقدور”.
وبناء عليه عني العلماء ببيان الضابط الذي يعتبر به الجهل عذرا شرعيا، ألا وهو ضابط مشقة الاحتراز والعجز، فما شق الاحتراز منه في العادة ووقع العجز فيه عفي عنه وكان عذرا(2)، وأما من لم يكن كذلك فلا يصلح أن يكون عذرا، وهذا تمشيا مع القاعدة الكلية الكبرى: “المشقة تجلب التيسير”.
قال العلامة القرافي رحمه الله: “وضابط ما يعفى عنه من الجهالات: الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة، وما لا يتعذر الاحتراز عنه ولا يشق لم يعف عنه” (الفروق 2/150).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض كلامه عن العذر بالجهل بالنسبة للمجتهد والمقلد: “إن هذا العذر لا يكون عذرا إلا مع العجز عن إزالته، وإلا فمتى أمكن الإنسان معرفة الحق فقصر فيه لم يكن معذورا” (الفتاوي 20/280).
ونشير هنا إلى أمر دقيق لم يتصوره ولم يدركه بعض من تكلم فيما نحن بصدده ألا وهو: أننا عندما نقرِّر أن الجاهل لا يعذر مع التفريط في الأمور الاعتقادية خاصة، لا يلزم من ذلك تكفيره كما فهمه بعضهم، فقد يكون هذا المعين كافرا أو فاسقا أو عاصيا على حسب الحال، وقد يلحقه الإثم لكن له حسنات ماحية.
وقد ألمح إلى هذا الذي قلناه الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله لما جعل حكم الجاهل المفرِّط محلَّ نظر حيث قال في منظومته الفقهية:
والشرع لا يلزم قبل العلم *** دليل فعل المسيء فافهم
لكن إذا فرط في التعلم *** فذا محلُّ نظر فلتعلم
وقال شيخ الإسلام رحمه الله مقررا ذلك: “وأما التكفير فالصواب أنه من اجتهد من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وقصد الحق فأخطأ، لم يكفر بل يغفر له خطؤه، ومن تبين له ما جاء به الرسول فشاقَّ الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين فهو كافر، ومن اتبع هواه وقصر في طلب الحق وتكلم بلا علم، فهو عاص مذنب، ثم قد يكون فاسقا وقد تكون له حسنات ترجح على سيئاته” (الفتاوي 12/180).
وننبه كذلك في هذا الصدد إلى أن المكلف قد لا يشقُّ عليه الاحتراز من التعلم، لكنه يعجز عن العمل بذلك، فإذا كان الأمر كذلك فهو مُلزَم بالتعلم غير مأمور بالعمل، لأن اشتراط العمل يعود أيضا إلى القدرة التي هي شرط في التكليف.
والقاعدة العلمية تقول: “الميسور لا يسقط بالمعسور” (انظر قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 2/5).
وقال القرافي رحمه الله: “والقاعدة: أن المتعذَّر يسقط اعتباره، والمُمكن يستصحب فيه التكليف” (الفروق 3/198).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: “فمن استقرأ ما جاء به الكتاب والسنة تبين له أن التكليف مشروط بالقدرة على العلم والعمل، فمن كان عاجزا عن أحدهما يسقط عنه ما يعجزه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (الفتاوي 21/634).
وقال في موضع آخر: “ولو أمكنه العلم به دون العمل، لوجب الإيمان به علما واعتقادا دون العمل” (الفتاوي 12/479).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فإن “العذر بالجهل ليس بإطلاق فإنه لابد من نوع مؤاخذة إذا كان هناك تقصير، كما عزَّر عمر رضي الله عنه الحبشيَّة التي زنَت، مع عدم علمها بحرمة الزنا، لأنها فرطت في التعليم، وكذلك عزَّر الصحابة الذين استحلوا شرب الخمر لعدم تقصيهم في معرفة الحلال والحرام” (سعة رحمة رب العالمين 70).
2- ومما يدخل في ذلك الجاهل المقلد في مسائل الاعتقاد خاصة، لمن يحسن الظن به، ولو كان المقلَّد ضالا مضلا، بشرط أن يكون هذا المقلد لا بصيرة له ولا فقه، عاجزا عن فهم الحجج، غير مفرط في طلب الحق ولا فيمن يؤخذ عنه الحق.
واعتُبر هذا النوع من التقليد عذرا شرعيا، لدخوله في جنس العذر بالجهل. (انظر الطرق الحكمية لابن القيم 174-175 ومزيل الإلباس في الأحكام على الناس 193).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعدما تكلم عن كفر وضلال أهل الحلول والاتحاد: “..فكل من كان أخبر بباطن هذا المذهب ووافقهم عليه، كان أظهر كفرا وإلحادا، وأما الجهال الذين يحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه ويعتقدون أنه من جنس كلام المشايخ العارفين الذين يتكلمون بكلام صحيح لا يفهمه كثير من الناس، فهؤلاء تجد فيهم إسلاما وإيمانا ومتابعة للكتاب والسنة بحسب إيمانهم التقليدي، وتجد فيهم إقرارا لهؤلاء وإحسانا للظن بهم، وتسليما لهم بحسب جهلهم وضلالهم..” (الفتاوي 2/367).
وتقرير هذا راجع إلى أن التقليد جائز في الجملة، ولمن ليس له إلا التقليد في أمور الاعتقاد خاصة كما بيناه آنفا، وهو المذهب الحق المنقول عن الأئمة الأربعة والمشهور عن الحنابلة والظاهرية وغيرهم. (انظر البحر المحيط 6/278، وإرشاد الفحول 266، والأحكام للآمدي 4/223).
ونسبه شيخ الإسلام إلى جمهور الأمة، (انظر الفتاوي 20/202)، بخلاف ما ذهب إليه كثير من الأصوليين والمتكلمين من أن أول واجب على المكلف هو النظر والاستدلال، وعليه يحرم عندهم التقليد في مسائل الاعتقاد مطلقا، وهو خلاف الصواب فتنبه. (نفسه).
وللبحث بقية…