توضيح المسالك إلى بيان شروط إسقاط حكم الكفر على المعين وموانع ذلك الفصل الخامس الحلقة الثانية عشرة

تقرر فيما سبق بيانه اعتبار شرط قيام الحجة للحكم بالكفر على المعين المسلم إذا وقع في الكفر، إلا أن العلماء اختلفوا: هل تكفي بلوغ الحجة أم لا بد من فهمها؟ قولان اختار جمهورهم أنه لا بد من فهم الحجة، لأن الحجة إذا لم تفهم فكأنها لم تقم. انظر الدلائل والإشارات على كشف الشبهات 56.

فهم الشيء وعقله شرط لتحقق قيام الحجة
لإظهار الصواب في هذه المسألة نقول: لقد أنزل الله الكتاب تبيانا لكل شيء كما قال جل وعلا: “وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ”.
وقال تعالى: “وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ”.
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير الآية: “أي: دلالات واضحات” تفسير الطبري 17/128.
وقال كذلك رحمه الله في قوله تعالى: “وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ”: “(مُّبَيِّنَاتٍ) أي: صارت مبيِّنة بنفسها الحق..” نفسه 18/134-135.
إلا أنه لا يلزم من أن الشريعة بينة في نفسها مبينة للحق أنها بينة لكل أحد في كل مسألة، لأن قدرات المكلفين العقلية تتفاوت. انظر الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 221.
و”الأئمة لا يتنازعون في كون الخطاب من المكلف شرط في قيام الحجة عليه، إذ هو من الأمور المتفق عليها بين المسلمين” نفسه 229.
ولذا قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله رادا على من يقول أن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا: “هذا لا يعقل ولا يتفق مع قوله تعالى: “وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى” الذي بنى عليه المحققون قولهم: (إن فهم الدعوة بدليلها شرط لقيام الحجة)” مجموعة الرسائل النجدية 5/638.
وعليه فالقول الصحيح في هذه المسألة قول الجمهور لدلائل كثيرة (1) أظهرها:
أولا: يقول الله تعالى: “لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا، لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا” فأخبر الله أنه لا يكلف أحدا إلا وسعه، ثم حكى دعاءها إياه بألا يؤاخذها بالنسيان والخطأ وما ذكر من الدعاء في الآية، وثبت أيضا في صحيح مسلم أن الله تعالى قال: “قد فعلت”.
فدلت الآية والحديث على عذر الله لهذه الأمة بعدم الفهم من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أنه أخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، وعدم الفهم إذا لم يصاحبه الإعراض ليس من وسع الإنسان ولا في طاقته، و”التكليف بما لا يطاق ممتنع في دين الله تعالى”.
الوجه الثاني: أن الله عذر من علم ثم نسي -وإذا كان الفهم هو العلم بالشيء- فمن لم يفهم أصلا أولى بالعذر من الناسي.
الوجه الثالث: أن عدم الفهم نوع من الخطأ كما يقال: “أخطأ فلان فهم المسألة” وقد دلت الآية على العذر بالخطأ.
ثانيا: قال تعالى: “وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْما”ًالأنبياء، فدلت الآية على عذر الله لداوود عليه السلام بعدم فهم هذه المسألة الخاصة، مع وصفه له بالعلم والحكمة على وجه العموم، فمن باب أولى عذر أهل الجهل بعدم الفهم.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “وقوله تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ) قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة” الجواب الصحيح 1/221.
وقال في الفتاوي 23/346: “وهذه الأقوال التي يكفر قائلها: قد يكون الشخص لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، أو لم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها..”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “..وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل” طريق الهجرتين 414.
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله: “فالجاهل والمخطئ من هذه الأمة ولو عمل من الكفر أو الشرك ما يكون صاحبه مشركا أو كافرا، فإنه يعذر بالجهل والخطأ حتى يتبين له الحجة التي يكفر تاركها بيانا واضحا..” نقلا عن محاسن التأويل 5/1307.

تحرير الخلاف في المسألة وتحقيقه
من خلال ما سبق يظهر إن شاء الله أن قول الجمهور وقول من يخالفهم في اشتراط فهم الحجة لتحقق قيامها متفق غير مختلف، وبيان ذلك كالآتي:
أولا: قول من قال بعدم شرطية فهم الحجة كما هو منقول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كما هو ظاهر كلامه في مجموع مؤلفاته 7/244-245، فذلك محمول على الفهم الجلي العالي الرتبة كما يفهمها من هداه الله ووفقه وانقاد لأمره(2).
وفي ذلك قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في منهاج التأسيس 252: “ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول”، وبنحو كلامه قال الشيخ حمد بن معمر رحمه الله في النبذة الشريفة 116، وعلق على ذلك الشيخ محمد رشيد رضا كما في مجموع الرسائل النجدية 5/368 بقوله: “هذا القيد الذي قيد به الشيخ الفهم هنا قد أزال اللبس الذي يتبادر إلى الذهن من بعض إطلاقاته في مواضع أخرى، واتبعه فيه بعض علماء نجد، فصار بعضهم يقول بأن الحجة تقوم على الناس ببلوغ القرآن وإن لم يفهمه من بلغه مطلقا..وقد علمنا من هذا القيد أن الفهم الذي لا يشترطه الشيخ هو فقه النصوص المؤثر في النفس الحامل لها على ترك الباطل كما يفهمها من اهتدى بها”.
فالحاصل أن قصد من لم يشترط الفهم في قيام الحجة فهم التفقه المؤثر في السلوك والذي يؤدي إلى الامتثال والانقياد، ومما يدل على ذلك قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كما في مجموع مؤلفاته 5/60: “إنما نكفر من أشرك بالله في إلهيته –أي: عبوديته- بعدما تبين له الحجة على بطلان الشرك”.
أما الفهم الذي يوجب العلم بالشيء وعقله فلا يتصور من أحد المخالفة في شرطيته وهو الذي أثبته الجمهور لتحقق قيام الحجة فهو فهم لا بد منه وعلته بينها ابن جرير رحمه الله في تفسيره 1/11 بقوله: “كان معلوما أنه غير جاهز أن يخاطب الله جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه، لأن المخاطب والمرسل إليه إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه فحاله قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة وبعده سواء، إذ لم يفده الخطاب والرسالة شيئا كان به قبل ذلك جاهلا” وانظر نحوه في الجواب الصحيح 1/222.
وصفوة المسألة إن شاء الله: “أن الخلاف لفظي لأن عندنا: مطلق الفهم والفهم المطلق(3)، فالكل اشترطوا مطلق الفهم، والكل نفوا اشتراط الفهم المطلق.
الفهم الذي يشترطه من قال به لا يعنون به الفهم المطلق، بل مطلق الفهم، والذين نفوا اشتراط الفهم لم يعنوا به نفي مطلق الفهم وإنما عنوا به نفي الفهم المطلق” منهج أهل الاتباع في التعامل مع أهل الابتداع وليد بن راشد بن سعيدان 20.
ثانيا: قد يحمل نفي اشتراط فهم الحجة على فهم الإقرار بالحكم وهو وجيه، (انظر أحكام الزكاة 142 لابن عثيمين رحمه الله، وموقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع 1/221)، أو يحمل على فهم القناعة بالحكم وهو وجيه كذلك، (انظر منهج أئمة الدعوة في الدعوة إلى الله 82 للشيخ صالح بن عبد العزيز).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: انظر موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع 1/206 فما بعدها.
2: ولذا فـ”الفهم المنفي عن المشركين الذين نزل القرآن بلغتهم هو فهم التفقه الباعث على ترك الباطل والانصياع إلى الحق..” الجهل بمسائل الاعتقاد وحكمه 235.
3: يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “والفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق: أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء يعني: أصل الشيء وإن كان ناقصا” شرح العقيدة الواسطية 2/244.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *