رضي لنا النبي صلى الله عليه وسلم ما رضيه لنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كما في الحديث: “رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد” صحيح الجامع 3509.
ولذلك حري بالحريص على هذه الوصية أن يتبع أقوال وكلمات هذا الصحابي الجليل وفهمها, ومن ذلك ما اشتهر عنه من قوله رضي الله عنه: “الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك” انظر: “إغاثة اللهفان”1/77, و”إعلام الموقعين”3/397, “والباعث على إنكار البدع والحوادث”22, “وتهذيب الكمال” 29/264.
فهذه الكلمة عظيمة القدر جليلة الموقع, تَتَابع العلماء على الاحتجاج بها وذكرها, إلا أن الكثير من الناس يحتجون بها في غير موضعها حتى خرجوا بها عن مقصودها, وسبب إيرادها.
فنجد من تبنى فكرة, أو اعتقد معتقدا يدعي أنه محق وعلى الحق, مستدلا بقلة من يسير على ذلك وكثرة المخالف له, محتجا يقول ابن مسعود رضي الله عنه: “..وإن كنت وحدك”.
فجعل القلة والكثرة المقياس الأصلي لتمييز الحق من الباطل, ومعرفة المحق من المبطل.
فحلت بذلك كلمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على أن القلة هي المتمسكة بالسنة والكتاب, والكثرة مخالفة للحق والصواب.
وهذا فهم فاسد لكلمة هذا الصحابي الجليل.
نعم وردت آيات كثيرة في ذم الكثرة كقوله تعالى: “وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ”
وقوله: “وَلَكِنَّ أَكَثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”
وقوله: “وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ”
إلا أنها لا تعني بحال ذم الكثرة على سبيل الإطلاق, وإنما المقصود بها ذم الكثرة التي قامت على الضلال والإضلال, كما يفهم منها مدح القلة التي تمسكت بالحق والبرهان.
فأهل الإسلام في أول الدعوة كانوا قلة, ثم صاروا كثرة وهم أهل الحق, مما يدل على أن العبرة أصالة بالحق لا بغيره.
قال أبو شامة رحمه الله: “حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة, فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك به قليلا, والمخالف كثيرا, أي: الحق هو ما كان عليه الصحابة الأول من الصحب, ولا حظ لكثرة أهل الباطل بعدهم” فيض القدير 4/19.
ومن ذلك قول الإمام ابن القيم رحمه الله لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “طوبى للغرباء قالوا: ومن الغرباء, قال: الذين يزيدون إذا نقص الناس: “فإن كان هذا الحديث بهذا اللفظ محفوظا لم ينقلب على الراوي لفظه، وهو: “الذين ينقصون إذا ازداد الناس” معناه: الذين يزيدون خيرا وإيمانا إذا نقص الناس من ذلك والله أعلم” المدارج 3/195.
ومما يبينه ويوضحه كذلك قوله رحمه الله: “ومن صفات هؤلاء الغرباء الذين غبطهم النبي صلى الله عليه وسلم التمسك بالسنة إذا رغب عنها الناس، وترك ما أحدثوه وإن كان هو المعروف عندهم، وتجريد التوحيد, وإن أنكر ذلك أكثر الناس، وترك الانتساب إلى أحد غير الله ورسوله لا شيخ ولا طريقة ولا مذهب ولا طائفة بل هؤلاء الغرباء منتسبوب إلى الله بالعبودية له وحده, وإلى رسوله بالاتباع لما جاء به وحده، وهؤلاء هم القابضون على الجمر حقا وأكثر الناس بل كلهم لائم لهم” المدارج3/197.
إذن ليس المقصود من كلمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه السير مع القلة, وجعل ذلك هو مصدر الحق, وإنما القصد حث المرء على التمسك بالحق, وأن يدور معه حيث دار وإن كان وحده, فإن الله معه فلا ينبغي أن يستوحش ذلك من قلة السالكين ولا يغتر بكثرة الهالكين.
قال ابن القيم رحمه الله: “..ولا تستعصب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك، فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك” الفوائد 116.