من القواعد العلمية المنهجة التي جرت على لسان العلماء وسطرت في كتب الفقهاء قولهم: “العبرة بذات القول لا بالقائل” إلا أن هذه القاعدة ككثير من القواعد قد وضعها بعضهم في غير موضعها, واستعملت في غير مجالها, حتى إن من الناس من إذا سألته عن قول يقوله أو مذهب يأخذ به: من قال ذلك من العلماء, ومن عمل به من الفقهاء ومن وضحه من الفهماء, يبادرك قائلا: العبرة بذات القول لا بالقائل دون قيد ولا شرط.
مع العلم أن تجاهل القائل مطلقا غير سديد كيف لا والله جل وعلا أحالنا على أهل العلم فقال: “فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” مما يدل على أن الاعتداد في أمور الشرع والدين يكون بأهل الذكر لا بغيرهم فتنبه.
ومن ثم نقول أن المتتبع لكلام أهل العلم يجدهم يذكرون هذه القاعدة في سياقات معينة, ومجالات محددة, ذلك أن القول إذا شاع وانتشر وبلغنا وعلمنا أنه حق وصواب فلا عبرة بعد ذلك بمن قال به, وإنما الشأن بصحته حيث أن الحق يقبل ممن كان حتى ولو كان القائل فاجرا أو كافرا.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض كلامه عن الاستدلال بكلام بعض المخالفين -مؤصلا- في الفتاوي 5/101: “..وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين -وغيرهم-, نقول بجميع ما يقوله في هذا الباب- وغيره-, والحق يقبل من كل من تكلم به.
وكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه -الذي رواه أبو داوود في سننه-:” اقبلوا الحق من كل من جاء به -وإن كان كافرا- أو قال: فاجرا, واحذروا زيغة الحكيم.
قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نورا”.
وقال الدمياني رحمه الله:
انظر إلى القول لا تنظر لقائله *** فإن صادقه يغنيك عن نسبه
الحق يسطع مثل الصبح منبلجا *** ومن يباريه يبدو الوهن في خيبه
والشعر ليس يزيد الحق مرتبة *** وغيره لا يحط الحق عن رتبه
(الصوارم والأسنة 113).
ويلحق بهذا المجال المذكور للقاعدة مجال النصيحة حيث العبرة فيها بالقول المنصوح به لا بقائله والله أعلم.
وإلا فمن الخطأ أن يتتبع الإنسان كلام غير المؤهل في أمور الدين -خاصة- ويسأله عن ذلك ويأخذ بقوله بدعوى أن العبرة بذات القول لا بالقائل!
لأنه حينئذ نقول نعم: العبرة بذات القول لا بالقائل لكن في دائرة أهله ممن لهم الأهلية للكلام في أمر الدين والشرع.
قال ابن سيرين -رحمه الله- : “إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخدون دينكم” مقدمة صحيح مسلم.
لكن قيل ذلك -مع الأهلية- حتى لا يقع المرء في التقليد المذموم وحتى نتجنب التعصب لمعظم في النفوس -ولو كان جليل القدر- لأن الحق أحق أن يتبع.
قال ابن الجوزي رحمه الله في معرض كلامه عن التقليد المذموم: “واعلم أن أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص, فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال, وهذا عين الضلال, لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل” تلبيس إبليس77 منتقاه.
وقال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان 1/6 في معرض كلامه على اعتماده في تفسير آيات الأحكام على الراجح بالدليل من أقوال أهل العلم: “ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل من غير تعصب لمذهب معين, ولا لقول قائل معين, لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله, لأن كل كلام فيه مقبول ومردود, إلا كلامه صلى الله عليه وسلم, ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرا”.
وقال العلامة السعدي رحمه الله في فوائد معرفة المقول دون قائله: “من فوائد ذلك: أن الأقوال التي يراد المقابلة بينها, ومعرفة راجحها من مرجوحها أن يقطع الناظر والمناظر النظر عن القائلين, فإنه ربما كان ذكر القائل مغترا عن مخالفته, وتوجب له الهيبة أن يكف عن قول ينافي ما قاله” المناظرات الفقهية 68.