يسم كثير من أهل الأهواء والبدع من العقلانيين والعلمانيين وغيرهم ممن لا فهم لهم دقيق أهل السنة -طعنا فيهم- بالظاهرية الجدد أو الحرفية في الفكر والنظر, لأجل تمسكهم بظواهر نصوص القرآن والسنة وجعل ذلك هو الأصل, وعدم أخذهم بروح النص كما زعموا!
ومن العجيب أن بعض من ينتسب إلى الدعوة يدعي أن هذا المسلك الذي سار عليه أهل السنة هو الذي ذمه العلماء على الظاهرية قديما!
وهذا من الخلط بين المفاهيم, ووضع بعضها موضع الآخر دون نظر وتدقيق, مما يدل على أن قائل ذلك: لا يعرف حقيقة مذهب الظاهرية، وما الذي رده العلماء عليهم؟, وما الذي ذموه في مسلكهم؟.
فنقول بيانا:
قرر العلماء رحمهم الله في هذا الصدد أن الأصل: هو الأخذ بظاهر النصوص إلا بقرائن ملزمة, قال ابن القيم رحمه الله: “الواجب حمل كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وحمل كلام المكلف على ظاهره الذي هو ظاهره, وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب, ولا يتم التفيهم والفهم إلا بذلك, ومدعي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذب عليه” إعلام الموقعين 3/108-109.
وقال الشنقيطي رحمه الله: “قد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه, إلى المحتمل المرجوح وعلى هذا كل من تكلم في الأصول” أضواء البيان 7/443.
وبناء عليه فكل ما ورد عن الأئمة في عدم الأخذ بظواهر بعض النصوص فذلك لمعارض ظهر لهم فتنبه.
ومن أمثلة ذلك ما بينه الذهبي رحمه الله في السير حيث قال: “قال أحمد بن حنبل: بلغ ابن أبي ذئب أن مالكا لم يأخذ بحديث “البيعان بالخيار” فقال: يستتاب, فإن تاب وإلا ضربت عنقه. ثم قال أحمد: هو أورع وأقول بالحق من مالك.
قلت (أي: الذهبي): لو كان ورعا كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمام عظيم فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث لأنه رآه منسوخا..” السير 7/142-143.
أما الظاهرية التي ذمها العلماء على أصحابها: أن يهجم المستدل على النصوص ويقطع بالحكم بها ببادئ النظر، اعتقادا منه أنه هو ظاهر النص ومقتضى اللغة دون طلب تفسير الصحابة والسلف, ودون مراعاة مقاصد الشرع ومحكماته.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “الاحتجاج بالظواهر مع الإعراض عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه طرق أهل البدع” الفتاوي 7/375.
ومن معالم الظاهرية المبتدعة- كذلك -: الجمود على ظاهر لفظ النص دون مراعاة المعنى المقصود منه وإبطال دليل القياس تعيينا, إلى غير ذلك. انظر إعلام الموقعين 1/344.
قال الشاطبي رحمه الله: “اتباع ظواهر القرآن على غير تدبر ولا نظر في مقاصده ومعاقده والقطع بالحكم ببادئ الرأي والنظر الأول, وهو الذي نبه عليه قوله في الحديث: “يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم” ومعلوم أن هذا الرأي يصد عن اتباع الحق المحض ويضاد المشي على الصراط المستقيم, ومن هنا ذم بعض العلماء رأي داوود الظاهري وقالوا: إنها بدعة ظهرت بعد المائتين” الموافقات 4/179.
وقال أبو حيان الأندلسي: “محال أن يرجع عن مذهب الظاهر من علق بذهنه”.
قال الشوكاني في البدر الطالع 2/290 معلقا على كلمة أبي حيان الأندلسي: “لقد صدق أبو حيان في مقاله, فمذهب الظاهر هو أول الفكر وآخر العمل عند من منح الانصاف, ولم يرد على فطرته ما يغيرها عن أصلها وليس هو مذهب داوود الظاهري وأتباعه فقط, بل مذهب أكابر العلماء المتقيدين بنصوص الشرع من عصر الصحابة إلى الآن, وداوود واحد منهم, وإنما اشتهر عنه الجمود في مسائل وقف فيها على الظاهر حيث لا ينبغي الوقوف وأهمل من أنواع القياس ما لا ينبغي لمنصف إهماله.
وبالجملة فمذهب الظاهر هو العمل بظاهر الكتاب والسنة بجميع الدلالات وطرح التعويل على محض الرأي الذي لا يرجع إليهما بوجه من وجوه الدلالة.
وأنت إذا أمعنت النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة وجدتها من مذهب الظاهر بعينه, بل إذا رزقت الانصاف وعرفت العلوم الاجتهادية كما ينبغي, ونظرت في علوم الكتاب والسنة حق النظر كنت ظاهريا, أي: عاملا بظاهر الشرع منسوبا إليه لا إلى داوود الظاهري, فإن نسبتك ونسبته إلى الظاهر متفقة, وهذه النسبة هي مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام, وإلى خاتم الرسل عليه أفضل الصلوات والتسليم, وإلى مذهب الظاهر بالمعنى الذي أوضحناه…” اهـ.
وصفوة الكلام في هذا الباب, وفصل النزاع في قضية الأخذ بالظاهر التفريق بين ما يظهر للإنسان وبين ظاهر كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فالأول قد يكون متوهما.
قال شيخ الإسلام: “ولفظ الظاهر يراد به ما قد ظهر للإنسان, وقد يراد به ما يدل عليه اللفظ, فالأول يكن بحسب فهم الناس, وفي القرآن ما يخالف الفهم الفاسد شيء كثير” منهاج السنة 4/179.
وقال أيضا: “فكل ما بينه القرآن وأظهره فهو حق, بخلاف ما يظهر للإنسان بمعنى آخر غير نفس القرآن يسمى ظاهر القرآن, كاستدلالات أهل البدع من المرجئة والجهمية والخوارج والشيعة” الفتاوي 7/375.