الكفر حقيقته, أقسامه, أنواعه, وأسبابه الفصل الثالث الحلقة الخامسة

عقد الفقهاء رحمهم الله في كتب الفقه كتابا أسموه بكتاب الردة, وقد خصصوه أصالة للكلام عما يوقع المرء في الكفر الأكبر, وهذا الأخير هو المقصود في حديثنا هذا, فما هي أنواعه وأسبابه؟
أنواع الكفر الأكبر
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين 1/337-338: “وأما الكفر الأكبر, فخمسة أنواع: كفر تكذيب, وكفر استكبار وإباء -مع التصديق-, وكفر إعراض, وكفر شك, وكفر نفاق:
1ـ فأما كفر التكذيب: فهو اعتقاد كذب الرسل: وهذا القسم قليل في الكفار, فإن الله تعالى أيد رسله وأعطاهم من البراهين والآيات على صدقهم ما أقام به الحجة, وأزال به المعذرة: قال الله تعالى عن فرعون وقومه: “وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّا” وقال لرسوله: “فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ”.
وإن سمي هذا1 كفر تكذيب -أيضا- فصحيح, إذ هو تكذيب باللسان.
2ـ وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس, فإنه لم يجحد أمر الله, ولا قابله بالإنكار, وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار.
ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول وأنه جاء بالحق من عند الله ولم ينقد له إباء واستكبارا، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه: “أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ”.. وهو كفر اليهود كما قال تعالى: “فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِه”..
3- وأما كفر الإعراض2: فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يصدقه ولا يكذبه ولا يواليه ولا يعاديه, ولا يصغي إلى ما جاء به -البتة-..
4- وأما كفر الشك: فإنه لا يجزم بصدقه ولا بكذبه, بل يشك في أمره, وهذا لا يستمرّ شكه إلا إذا ألزم نفسه الإعراض عن النظر في آيات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم -جملة-, فلا يسمعها ولا يلتفت إليها.
وأما مع إلتفاته إليها, ونظره فيها, فإنه لا يبقى معه شك, لأنها مستلزمة للصدق, ولا سيما بمجموعها, فإن دلالتها على الصدق كدلالة الشمس على النهار.
5ـ وأما كفر النفاق: فهو أن يظهر بلسانه الإيمان, وينطوي بقلبه على التكذيب, فهذا هو النفاق الأكبر”.
ثم قال رحمه الله: “وكفر الجحود3 نوعان: كفر مطلق عام, وكفر مقيد خاص:
ـ فالمطلق: أن يجحد جملة ما أنزله الله, وإرساله الرسول.
ـ والخاص المقيد: أن يجحد فرضا من فروض الإسلام, أو تحريم محرم من محرماته, أو صفة وصف الله بها نفسه, أو خبرا أخبر الله به -عمدا-, أو تقديما لقول من خالفه عليه -لغرض من الأغراض-.
وأما جحد ذلك جهلا, أو تأويلا -يعذر فيه صاحبه-: فلا يكفر صاحبه به” اهـ.
أما حصر الكفر في التكذيب والجحود, فهو ضلال وانحراف, كما هو مذهب المرجئة.
وما ورد في كلام بعض علماء السنة والحديث مما يوهم شيئا من ذلك: فالواجب حمله على المحمل الحسن والوجه الصواب, لما علم عنهم من صحة القواعد وسلامة الاعتقاد.
فها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: “الكفر إنما هو الجحود” أحكام أهل الذمة 3/1156.
وقال السعدي رحمه الله: “وقد ذكر العلماء رحمهم الله تفاصيل ما يخرج به العبد من الإسلام، وترجع جميعها إلى جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أوجحد بعضه” منهج السالكين 112.
فنقول: لفظة الجحد في كلام هذين الإمامين الأثريين محمولة4 على: “الامتناع والإباء المنافي للانقياد”.
لأن لفظة “الجحود” تطلق ويراد بها هذا المعنى, كما تطلق ويراد بها: “التكذيب المنافي للتصديق”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض كلامه عن تارك الصلاة: “ومن أطلق من الفقهاء أنه لا يكفر إلا من يجحد وجوبها: فيكون الجحد -عنده- متناولا للتكذيب بالإيجاب, ومتناولا للامتناع عند الإقرار والالتزام..” الفتاوي 20/98.
أسباب الكفر الأكبر
أجمع أهل السنة على أن الإيمان شرعا قول وعمل واعتقاد، أنظر: الإيمان لابن تيمية 292, وشرح السنة للبغوي 38, والتمهيد لابن عبد البر 9/28.
ولما كان ضد الإيمان الكفر كان هذا الأخير بدوره يكون بالقول والعمل والاعتقاد.
يقول السعدي رحمه: “والمرتد هو من خرج عن دين الإسلام إلى الكفر بفعل أو قول أو اعتقاد أو شك5” منهج السالكين 112.
ومثال القول: كسبِّ الله ورسولِه أو ادعاء النبوة…
ومثال الفعل: كالسجود للصنم, وإلقاء المصحف في القاذورات ونحو ذلك.
ومثال الاعتقاد: كاعتقاد الشريك له تعالى، أو أن الزنا حلال, ونحو ذلك مما أجمع عليه إجماعا قطعيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: أي: صنيع الجاحدين -المذكورين-, وهو كفر الجحود.
2: قال ابن القيم رحمه الله: “إن المدعو إلى الإيمان إذا قال: لا أصدق ولا أكذب, ولا أحب ولا أبغض, ولا أعبده ولا أعبد غيره كان كافرا بمجرد الترك والإعراض، بخلاف ما إذا قال: أنا أصدق الرسول وأحبه, وأؤمن به وأفعل ما أمرني ولكن شهوتي وإرادتي وطبعي حاكمة علي لا تدعني أترك ما نهاني عنه, وأنا أعلم أنه قد نهاني وكره فعل المنهي, ولكن لا صبر لي عنه، فهذا لا يعد كافرا بذلك ولا حكمه كحكم الأول, فإن هذا مطيع من وجه، وتارك المأمور -جملة- لا يعد مطيعا بوجه” الفوائد لابن القيم219.
3: وهو “انكارك بلسانك ما تستيقنه نفسك”، أنظر مفردات الأصفهاني 122, ولسان العرب 3/106.
4: أو يحمل على أنه توكيد أو تغليب والله أعلم.
5: جعل الشك من أسباب الكفر هو مذهب طائفة من أهل العلم، أنظر دليل الطالب 317, وعقيدة المسلمين للبليهي 281, والبعض يرى أن الشك من أنواع الكفر لا من أسبابه كما هو صنيع الإمام ابن القيم رحمه الله وقد مرّ معنا قريبا وهو الأظهر, والأمر يسير والله أعلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *