عند الرد على كثير من الناس بعض ما أحدثوا من البدع في باب العبادات، وأن ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام رضوان الله عليهم من بعده، يحتجون عليك بقول القائل” ترك الشيء لا يدل على تحريمه” وينسبون مثل هذا الكلام إلى علماء الأصول.
فنقول نعم، هذا الكلام جرى على لسان العلماء، وهو مسطور في كتب الفقهاء، وممن قال ذلك الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله في “إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام”1/205، وقال في موضع آخر منه: “ليس الترك بدليل الامتناع”1/188.
فالقاعدة صحيحة، لكن وضعت في غير موضعها حيث مجالها -عند العلماء- العادات لا العبادات، لأن الأصل في العادات الإباحة، فالترك في باب العادات لا يدل على التحريم، كترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب فتنبه.
أما العبادات فعلى خلاف ذلك، لأن الأصل فيها المنع والتوقف كما هو مقرر معلوم مصداقا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: “من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد” رواه البخاري ومسلم واللفظ له، وانظر الفتاوي31/35، وإعلام الموقعين 1/344، ومن أمثلة ذلك الأذان في العيدين.
فقد أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه باب: المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة: عن عطاء أن ابن عباس أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له: إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر، وإنما الخطبة بعد الصلاة.
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد 24/239: “وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء، ولا تنازع بين الفقهاء أنه لا أذان ولا إقامة في العيدين ولا في شيء من الصلوات المسنونات والنوافل، إنما الأذان للمكتوبات”.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “…فلما أمر (أي النبي عليه الصلاة والسلام) بالأذان للجمعة، وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، دل تركه على أن ترك الأذان هو السنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك بل الزيادة فيه كالزيادة في أعداد الصلوات وأعداد الركعات، أو زيادة أيام الصوم المفروضة، أو شعائر الحج المطلوب ونحو ذلك” الإقتضاء134.
فتبين أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود المقتضي لفعله كان فعله بدعة وتركه سنة، وهذا الذي يعرف بالسنة التركية، فتمام الإتباع للسنة يكون بترك ما ورد تركه وفعل ما ورد فعله كما قال الشافعي رحمه الله: “ولكننا نتبع السنة فعلا أو تركا” الفتح 3/475.
وهذا هو صفوة الكلام في هذه المسألة كما سمعنا من كلام الشافعي رحمه الله، وكما قرره غير واحد من أهل العلم كابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم رحمه الله، والشاطبي رحمه الله في الاعتصام 1/360، والحافظ ابن حجر الهيثمي رحمه الله في الفتاوى الحديثية 356، وانظر الحوادث والبدع 74 للطرطوشي رحمه الله، والتعليق على الروضة الندية 1/72 للعلامة أحمد شاكر رحمه الله، وأحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام 13 للشيخ بخيت المطيعي رحمه الله.
ومما يؤكد ما بينوه أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام التي أمرنا باتباعها: قول وفعل وتقرير، وقد قرر العلماء رحمهم الله أن الترك يدخل في الفعل كما قال صاحب المراقي رحمه الله:
فكلنا بالنهي مطلوب النبي والترك فعل في صحيح المذهب.
وقال العلامة الشنقيطي رحمه الله: “والترك فعل عند الأصوليين” أضواء البيان 5/289-291.
وقال الشوكاني رحمه الله: “تركه صلى الله عليه وسلم للشيء كفعله في التأسي به فيه” إرشاد الفحول 83.
وقال ابن النجار رحمه الله: “وأما التأسي في الترك فهو أن تترك ما تركه لأجل أنه تركه” مختصر التحرير 2/196.
وقال ابن مفلح رحمه الله في الأصول1/335-336: “والتأسي: أن تفعل مثل فعله على وجهه لأجل فعله وكذلك الترك” اهـ