التكفير حق الله وحده, فلا يجوز المسارعة إليه إلا بإذن من الله وسلطان, أي: بنص من كتاب الله تعالى أو من سنة النبي العدنان عليه الصلاة والسلام, مع قطعية الحجة التي لا يتطرق إليها أدنى شبهة ولا احتمال, لإن الاقدام على إخراج المسلمين من دائرة الإيمان تنجم عنه آثار عظيمة, وتترتب عليه أمور كثيرة مما لها تعلق بجملة من الأحكام الشرعية: كأحكام المواريث والنكاح والقصاص والدماء والجنائز والقضاء.. إلى غير ذلك.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله المفترى عليه بتكفير المسلمين: “اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة, وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة, وغير ذلك في الدار الدنيا” الفتاوي 12/251.
يقول الله تعالى: “يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه الصلاة والسلام: “إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما” البخاري وغيره.
يقول الناظم:
من قال يا كافر للأخ فقد باء بها أحدهم فيما رود
يقول الشوكاني رحمه الله: “اعلم ان الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام, ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من الشمس, فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة رضي الله عنه أن من قال لأخيه يا كافر, فقد باء بها أحدهما.. ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر, وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير” السيل الجرار 4/578.
وقد بلغ العلماء في التوقي والاحتياط في ذلك مبلغا عظيما به نكشف حال من تجده يوافق بعض قواعد أهل السنة في هذا الباب, لكن من جهة التنظير والتأصيل, مع عدم تورعه في التنزيل!!.
وتجده يقول بقول أهل العلم والعرفان في هذا المقام, ويتسرع ويغلو في إنزال الأحكام على الأعيان! فليتأمل هذا أهل الدين والإيمان.
فقد نقل القاضي عياض المالكي رحمه الله في كتابه الشفا 2/277 عن العلماء المحققين قولهم: “.. والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد” وانظر نحوه لأبي حامد الغزالي رحمه الله في “التفرقة” 17.
وتقرير ذلك راجع إلى: “أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة” إيثار الحق على الخلق لابن الوزير رحمه الله 400.
و”أن الوقف عن التكفير عند التعارض والاشتباه أولى وأحوط.. وذلك أن الخطأ في الوقف على تقديره: تقصير في حق من حقوق الغني الحميد العفوِّ الواسع.. والخطأ في التكفير على تقديره: أعظم الجنايات على عباده المسلمين المؤمنين, وذلك مضاد لما أوجب الله من حبهم ونصرهم والذب عنهم” إيثار الحق 403.
فظهر بذلك عظم المسارعة في هذا الباب بلا علم ولا يقين, مما أوجب على كل من له يد باسطة في العلم والدين أن يطلق “صيحة نذير” -مدوية عالية- “بخطر التكفير” -هذا-, ليسمع مداها, ويرجع صداها, لعل القلوب تعقلها والعقول توعبها.
فها هو الإمام الذهبي رحمه الله يعيب على بعض المالكية تسرعهم في هذا الباب, محذرا من سلوك مسلكهم حيث قال: “الفقهاء المالكية على خير واتباع وفضل إن سلم قضاتهم ومفتوهم من التسرع في الدماء والتكفير, فإن الحاكم والمفتي يتعين عليه أن يراقب الله تعالى, ويتأنى في الحكم بالتقليد ولا سيما في إراقة الدماء” زغل العلم 15.
وليعلم أن الكلام في هذا الخضم يتوقف على معرفة أصول عامة, وقواعد كلية, وضوابط شرعية, وتفاصيل مرعية, لا يجوز لمن جهلها وأعرض عنها وعن حقائقها أن يخوض في إنزال الأحكام معتمدا على الإطلاق والاجمال فإن هذا من أسباب فساد الأديان, وشتات الأذهان كما قال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ إطلاق والاجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والأراء كل زمان
وعليه فالإقدام على هذا الباب منوط بخواص أهل الورع والدين والعرفان كما هو الواجب في مثل ذلك من دقائق الشرع والأحكام.
يقول ابن تيمية رحمه الله في معرض الكلام عن نحو هذه الأحكام الدقيقة: “وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق من وظيفة خواص أهل العلم” منهاج السنة 4/504.
فالحكم بالكفر من الأحكام الشرعية وليس من الأمور العقلية.
يقول ابن الوزير رحمه الله: “إن التكفير سمعي محض, لا مدخل للعقل فيه, وإن الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعيا قطعيا, ولا نزاع في ذلك” العواصم من القواصم 4/178, انظر في تقرير ذلك الرد على البكري 257 وتهذيب الفروق 4/158 في آخرين.
ومن ثم فإنزاله (أي الحكم بالكفر) على الأشخاص والأعيان.. مشروط بتحقق الشروط وزوال الموانع, كما يقول الناظم:
ولا يتم الحكم حتى تجتمع كل الشروط والموانع ترتفع
والخبرة بذلك, وتحرير مسائله, وضبط أصوله, وتصور حقائقه, موكول إلى أهل العلم والعرفان, لا إلى حدثاء الأسنان, ولا سفهاء الأحلام.
يقول الشيخ بكر أبو زيد: “إصدار الحكم بالتكفير لا يكون لكل أحد من آحاد الناس أو جماعاتهم, وإنما مرد الإصدار إلى العلماء الراسخين في العلم الشرعي المشهود لهم به” درء الفتنة 20.
وختاما نقول: من أراد السلامة, وسلوك طريق أهل العلم والإمامة فليعمل بمقتضى ما ذكره الإمام القرطبي المالكي رحمه الله حيث قال: “وباب التكفير باب خطير, أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا, وتوقف فيه الفحول فسلموا, ولا نعدل بالسلامة شيئا” المفهم 3/111.
ويقول الذهبي رحمه الله: “رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي, سمعت أبا حازم العبدوي, سمعت زاهر بن أحمد السَّرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد, دعاني فأتيته فقال: اشهد علي أني لا أكفر أحدا من أهل القبلة, لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد, وإنما هذا كله اختلاف العبارات.
قلت (أي: الذهبي): وبنحو هذا أدين, إذ كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة, ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن” فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم” السير 15/88.
وبقي أن ننبه إلى أن كلام العلماء الذي أوردناه آنفا لا يعني التوقف فيمن أتى ناقضا من نواقض الإسلام وتحققت فيه الشروط وانتفت الموانع، مع التنبيه على أن الحكم في أمر الأعيان راجع إلى أهل العلم المؤهلين للفتوى. وسيأتي تفصيل ذلك في الحلقات القادمة إنشاء الله تعالى.