الإكراه في الجملة مانع من موانع إلحاق الكفر بالمعين المسلم المتلبس بما هو كفر شرعا، كما مرَّ معنا بشرط شرح الصدر بالإيمان والطمأنينة به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “فأباح (1) سبحانه عند الإكراه أن ينطق الرجل بالكفر بلسانه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان بخلاف من شرح بالكفر صدرا” الاستقامة 2/319.
هل يشمل الإكراه الأفعال كما يشمل الأقوال أم لا؟
لا خلاف بين الفقهاء في أن أفعال القلوب كالحب والبغض لا مجال للإكراه فيها. انظر مزيل الإلباس في الأحكام على الناس 157.
قال السيوطي رحمه الله: “قال العلماء: لا يتصور الإكراه على شيء من أفعال القلوب” الأشباه والنظائر 1/422.
وإذا أجمع العلماء على الرخصة بالإكراه في الأقوال كما مر، فهل يشمل ذلك الأفعال كذلك؟
يقول الإمام القرطبي رحمه الله في حكاية الخلاف في هذه المسألة: “ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الرخصة إنما جاءت في القول، وأما الفعل فلا رخصة فيه، مثل أن يكرهوا على السجود لغير الله والصلاة لغير الله.. يروى هذا عن الحسن البصري وهو قول الأوزاعي وسحنون..
وقالت طائفة: الإكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الإيمان، روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومحكول وهو قول مالك وطائفة من أهل العراق..” تفسير القرطبي 10/182-183، أنظر جامع العلوم والحكم 355.
والصحيح عدم التفريق بين الأقوال والأفعال(2) وهو مذهب الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور” الفتح 12/312، وانظر مجموع الفتاوى المصرية لابن تيمية 1/56.
وقد رد الإمام الشوكاني رحمه الله على من منع الرخصة بالإكراه في الأفعال متعلقا بسبب نزول قوله تعالى: “إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ”، بأنها نزلت في عمار رضي الله عنه وقد أباح له الرسول صلى الله عليه وسلم القول، فقالوا: “الرخصة إذن تكون في الأقوال ولا تشمل الأفعال”.
يقول رحمه الله: “يدفعه ظاهر الآية فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول، وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في الأصول” فتح القدير 3/197.
وعليه فمن أظهر الكفر مكرها بقوله أو فعله وقلبه مطمئن بالإيمان فليس عليه حرج، وهو معذور بسبب الإكراه.
حد الإكراه الذي تصح به المعذرة
قسم جمهور الأصوليين والفقهاء الإكراه إلى قسمين: إكراه ملجئ وهو الإكراه التام، وإكراه غير ملجئ وهو الإكراه الناقص.
أ- الإكراه الملجئ (التام): هو الذي يقع على نفس المكره بحيث لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار.
ب- الإكراه غير الملجئ (الناقص): وهو التهديد أو الوعيد بما دون تلف النفس أو العضو، كالتخويف بالضرب أو القيد.. ولكنه لا يفسد الإختيار لعدم الإضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه.. أنظر “مزيل الإلباس في الأحكام على الناس” 154 -155.
والتحقيق في حد الإكراه الذي تصح به المعذرة أنه يختلف باختلاف النظر في أمور ثلاثة وهي(3):
1- حال المكرَه -بفتح الراء- ذلك لأن الناس يختلفون في قدرات تحملهم.
2- حال المكرِه -من وقع منه الإكراه- ، لأن هناك فرقا بين من يستطيع تنفيذ الوعيد بأن كان ذا سلطان أو من في حكمه، وبين من يعلم عن طريق العادة أنه يكتفي بالتهديد دون التنفيذ.
3- الأمر الذي وقع عليه الإكراه،ذلك لأن الكفر يختلف عن المحرم المجمع على تحريمه مما هو دون الشرك، وهذا بدوره يختلف عن المحرم المختلف في حرمته، فوجب طبعا أن يختلف حد الإكراه الذي تصح به المعذرة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: “تأملت المذاهب فوجدت الإكراه يختلف باختلاف المكره عليه، فليس الإكراه المعتبر في كلمة الكفر كالإكراه المعتبر في الهبة ونحوها، فإن أحمد قد نصَّ في غير موضع، أن الإكراه على الكفر لا يكون إلا بالتعذيب من ضرب وقيد، ولا يكون الكلام إكراهاً..”.
ومن أجل ما سبق كشف العلماء عن شروط الإعذار بالإكراه.
شروط الإعذار بالإكراه
أولها : أن يكون المكرِه -بالكسر- قادرا على إنفاذ وعيده وتهديده.
ثانيها: أن يكون المكرَه –بالفتح- غير قادر على المدافعة ولا الفرار.
ثالثها: أن يكون في امتناع المكرَه -بالفتح- حصول الوعيد والتهديد.
رابعها: أن يتيقن المكرَه –بالفتح- أو يغلب على ظنه أن المكرِه -بالكسر- سيوقع به ما هدده به أو توعده به.
خامسها: ان يكون إيقاع المكروه بالمكرَه -بالفتح- بعد زمن قريب في العرف أو وقت فوري في الحال، لا أن يكون متأخرا.
انظر الفتح 12/311، والمغني 7/120، والأشباه والنظائر للسيوطي 208-210، والقواعد للحصني 2/306.
وخلاصة الكلام أنه لا بد من اعتبار شرط الإختيار (وضده الإكراه) عند تنزيل حكم الكفر على الأعيان.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “..المختار من له إختيار وإرادة وهذا المكره إرادته وإختياره الذي هو فيه أن لا يفعل الذي أكره عليه، ولكن لما ألجئ بما يوقع به من العذاب إلى إحداث إختيار آخر وإرادة أخرى يفعل بها ما أكره عليه، وصح إثبات الإختيار والإرادة له باعتبار ما أحدثه الإكراه فيه، وصح نفي ذلك باعتبار أنه من نفسه ليس له اختيار ولا إرادة بل إرادته واختياره في نفي ذلك الفعل” الإستقامة 2/324-325.
إلى هنا تم إنهاء الحديث عن أهم ما يذكر في شروط وموانع التكفير، مع التنبيه إلى الموانع البدهية كما مرت الإشارة إليها وهما البلوغ والعقل، فإن القاعدة الأصولية تقول: “البلوغ والعقل شرط التكليف”. انظر القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام 33،والقواعد والأصول الجامعة للسعدي 33.
قال ابن قدامة رحمه الله: “إن الرِّدة لا تصح إلا من عاقل، فأما من لا عقل له كالطفل الذي لا عقل له والمجنون، ومن زال عقله بإغماء أو نوم أو مرض أو شرب دواء يباح شربه، فلا تصح ردته ولا حكم بكلامه بغير خلاف” المغني 12/266.
…………………………………..
1- قال السيوطي رحمه الله: “التلفظ بكلمة الكفر (أي: عند الإكراه) فيباح للآية ولا يجب، بل الأفضل الامتناع مصابرة على الدين، واقتداء بالسلف: وقيل الأفضل التلفظ، صيانة لنفسك، وقيل إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو والقيام بأحكام الشرع فالأفضل التلفظ لمصلحة بقائه وإلا فالأفضل الامتناع” الأشباه والنظائر 1/421.
هذا على أن جمعا من أهل العلم أطلقوا حكاية الإجماع، على أن الصبر أفضل وأعظم أجرا مع إباحة قول الكفر بسبب الإكراه. انظر الفتح 12/317، وتفسير القرطبي 10/188، وأحكام القرآن لابن العربي 3/1178.
2- باستثناء الإجماع على عدم الرخصة بالإكراه في القتل للمعصوم والخلاف في مسألة الزنا انظر تفسير القرطبي 10/113، وأحكام القرآن لابن العربي 3/1386، وجامع العلوم والحكم 354.
3- انظر “ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة” 278.