من الموانع التي تمنع تكفير المسلم إذا ارتكب مكفرا الإكراه، إذ قد يكره المسلم على أمر هو من الكفر لكن لا مخرج منه، فهذا مما يعذر الله به عباده فإن التكاليف الشرعية منوطة بالإستطاعة والإكراه أمر خارج عنها(1)، فالله تعالى لا يؤاخذ عباده عند المخالفة إذا عدم القصد وعقد القلب.
قال ابن القيم رحمه الله: “..والغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما لا يريده العبد بل يريد خلافه، والتكلم به مكرها وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه، فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب والمشقة، فرفع عنها المؤاخذة بذلك…لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذ به” الإعلام 3/105-106.
تعريف الإكراه لغة واصطلاحا وبيان أدلة اعتباره مانعا
الإكراه لغة هو: “إلزام الغير بأمر هو له كاره” انظر لسان العرب 13/535، وبمعناه عرف الحافظ ابن حجر رحمه الله الإكراه اصطلاحا. انظر الفتح 12/311.
وقال ابن العربي رحمه الله في بيان معناه اصطلاحا: “والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به فأبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر” أحكام القرآن 2/13.
وقال الشرقاوي من الشافعية في تعريفه له: “الإلجاء إلى فعل الشيء قهرا” حاشية الشرقاوي 2/39.
وعرفه علاء الدين البخاري الحنفي بقوله: “حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه، ويصير الغير خائفا فائت الرضى بالمباشرة” نقلا عن كشف الأسرار للبزدوي 4/482.
والأدلة على تقرير كونه مانعا من موانع إلحاق الكفر بالمعين كثيرة منها.
قوله تعالى: “مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً”(2).
قال الجصاص رحمه الله: “قال أبو بكر هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال الإكراه” أحكام القرآن له 5/13.
وقال ابن حجر رحمه الله: “وأما من أكره على ذلك فهو معذور بالآية، لأن الاستثناء من الإثبات نفي، فيقتضي أن لا يدخل الذي أكره على الكفر تحت الوعيد” الفتح 2/312.
وجاء في الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”.
قال أبو بكر بن العربي رحمه الله: “والخبر وإن لم يصح سنده(3) فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء” أحكام القرآن 3/138.
وقال الشاطبي رحمه الله في معنى الحديث: “هو معنى متفق عليه في الجملة، لا خلاف فيه” الموافقات 3/263.
وقد اتفق أهل العلم على أن من تلفظ بالكفر مكرها وقلبه مطمئن بالإيمان فإنه لا يكفر.
قال ابن بطال رحمه الله: “أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه الكفر فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر، ولا تبين منه زوجته..” الفتح 2/313.
وقال الحافظ رحمه الله عند حديث إن الله تجاوز عن أمتي: “وهو حديث جليل قال بعض العلماء: ينبغي أن يعد نصف الإسلام لأن الفعل إما عن قصد واختيار أو لا، الثاني: ما يقع عن خطأ أو نسيان أو إكراه، فهذا القسم معفو عنه باتفاق” الفتح 5/161.
وقال الإمام القرطبي: “النطق بكلمة الكفر تسقط الأحكام المترتبة عليه والإثم في حال الإكراه باتفاق العلماء” تفسير القرطبي 3/432.
وقال ابن العربي رحمه الله: “وأما الكفر بالله فذلك جائز له (أي: المكره) بغير خلاف، على شرط أن يلفظ وقلبه منشرح بالإيمان، فإن ساعد قلبُه في الكفر لسانه كان آثما كافرا، لأن الإكراه لا سلطان له في الباطن وإنما سلطانه على الظاهر” أحكام القرآن 3/1178.
وللبحث بقية..
……………………………………….
1: اختلف الفقهاء والأصوليون في المكره هل يسمى مختارا أم لا؟ بمعنى هل يعتبر مكلفا أم لا؟ أنظر الأشباه والنظائر للسيوطي1/415 فما بعدها.
قال ابن القيم رحمه الله: “واختلف الفقهاء والأصوليين في المكره هل يسمى مختارا أم لا؟ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول التحقيق أنه محمول على الاختيار، فله اختيار في الفعل وبه صح وقوعه، فإنه لولا إرادته واختياره لما وقع الفعل ولكنه محمول على أن هذه الإرادة والإختيار ليست من قبله، فهو مختار باعتبار أن حقيقة الإرادة والاختيار منه، وغير مختار باعتبار أن غيره حمله على الاختيار ولم يكن مختارا من نفسه، هذا معنى كلامه” المدارج 2/360.
2: هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر رضي الله عنه اتفاقا.
قال الحافظ: “واتفقوا على أنه (أي: عمار) نزل فيه: “إلا من أكره وقلبه مطمئن” الإصابة 2/512.
أما الأحاديث الواردة في ذلك فمرسلة قال الحافظ بعد إيراد هذه الطرق المرسلة: “وهذه المراسيل تقوي بعضها بعضا” الفتح 12/312.
وصحح بعض هذه الأحاديث الحاكم في المستدرك 2/357 ووافقه الذهبي وتعقبهما الألباني رحم الله الجميع حيث قال في صحيح السيرة النبوية 155/حاشية رقم 2: “وهو من أوهامهما، كما كنت بينته في تخريج فقه السيرة للغزالي الصحفحة 107″، وانظر الاستيعاب في بيان الأسباب 2/423 فما بعدها.,
3: رواه ابن ماجة وابن حبان وغيرهما وقال الحاكم في المستدرك: “صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه” 2/216، وقال النووي في الأربعين: “حديث حسن”، وصححه السيوطي في الأشباه والنظائر لشواهده 1/394 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة رقم 1662.