لا منطقة تساكن بين العلمانية كفكر والإسلام كـدين عبد المغيث موحد

أحيانا كثيرة وبنوع من التجرد الذي لا يقدح في أبوة الإسلام، وعلى أنها أبوة إفادة وستبقى كذلك إن شاء الله إلى أن تعود العارية إلى بارئها؛ أجد نفسي مع جهد جهيد أبحث عن مصوغ مقبول للأرضية المشتركة التي يمكن أن يكون بساطها موروثا مشتركا للديني والعلماني، فلا أكاد أجد مصوغا لهذا الفصام؛ اللهم ذلك الهامش الذي يحصل متلازما مع انسلاخ الأول عن أصله باسم الوسطية والاعتدال والتسامح وقبول الآخر من جهة، ومع ما يمكن أن نطلق عليه تجوزا الطبيعة الحربائية للثاني؛ وهي طبيعة تحكمها عوامل المصلحة والنفاق البرغماتي الذي يتحكم في سعر الغلبة و المغلوبية المتدثران حسب الضرورة الواقعية بما وصلت إليه الإنسانية من درجة متقدمة من وعيها الحضاري تدفع زمن الغلبة والتسلط العلماني نحو نهج سياسة الإقصاء والتكالب ودرس معالم علاقة الفرد بربه وبمحيطه الغيبي، وتتوارى زمن المغلوبية وراء دثار التقية واستبدال المراد الحقيقي من ماهية وجودها وغائية سعيها، فهي زمن الغلبة قد بدت البغضاء من جلبتها وعربدتها بدفاعها عن المساواة بين الجنسين وفتح أوراش حقوق الإنسان، وحقوق الحيوان، وحقوق الشواذ والدعارة، وكل تهتك جاء الدين الحنيف بتحريمه ومدافعته، ومناهضة الأحكام الشرعية وتعطيل الحدود، بل يتعدى الأمر هذا إلى ما هو أدهى وأمر وأجرء، إذ تتعرض هذه البغضاء إلى ما هو شعائري فلا تسلم صلواتنا ولا صيامنا ولا زكاتنا ولا حجنا ولا أعيادنا..
إنها حرب أفقية لا تبقي ولا تذر يربط في وطيسها الوحي النصوصي بتاريخية الورود من زمن ومكان ومجتمع، إذ يبدو الكل في هذه الحوجلة التاريخية المارقة متجاوزا بحكم أن زمن وبيئة ومجتمع الورود كان أفقه المعرفي والثقافي يقبل بالخرافة ويؤمن بالغيبيات التي هي محض أساطير، أما اليوم فلا فرصة للرجوع إلى الوراء ولا تسامح مع ربط الحاضر بالفكر “الميثي أسطوري”، ولا تساهل مع من لا يزال يدندن بخطابه الغيبي عن الله والملائكة والكتب والجن والشياطين، إذ بالمنطوق والمنطق العلماني الذي يرى أن المغزى من الأحكام قد تجاوزه زمن الانشطار الذري وغزو الفضاء وزيارة العرجون القديم، لا منطقة تساكن ولا تعايش ولا تشارك بين ما وصلت إليه المدنية المعاصرة وما تريد بزعمهم المريض أن تنفخ فيه القوى الظلامية روح العودة واجترار تجربة الوراء التقليدية..
وعليه؛ فأي تساكن أو تعايش تفرزه اليوم آليات الحداثة العلمانية والهيكلة الدينية المزعومة فهو وهم من جهة ما يجب أن يكون بالنظر إلى الفكر والمرجعية، أو هو لازم عن ذلك الانسلاخ السالف ذكره والنفاق السياسي الآنف تقريره، وقد يبدو هذا جليا عند الرجوع ضرورة إلى منطقة الفكر والمرجعية، إذ كلا النقيضين من الحق والباطل يؤصل لوجوده وتجليه بالمبدأ القائل: “نكون أو لا نكون”، ولا منطقة أعراف بين هذا الإثبات الوجودي والنفي العدمي، ولا يغرنك هذا التآلف السرابي الذي تصنع غرانيقه باسم التدين الحداثي والخطاب التجديدي للدعاة الجدد.
كما لا يغررك أن العلمانية كفكر تحكمه المصلحة والغلبة يمكن أن ينجح أهلها في تحوير موقفهم من الدين والنص تقية، وذلك بالتمترس وراء الرأي الذي يرى أن عمق المشكلة يكمن في فهم هذا الدين وفي إشكالية تنزيله كشريعة؛ أي أن الصراع هو مع التدين والمتدينين الذين جعلوهم شمّاعة علقوا عليها أدرانهم وأسمال حقدهم على الرسالة وصاحبها عليه الصلاة والسلام، فهم و بالاستعانة بالحاضنة الغربية وآلتها الإعلامية الطاحنة يصنعون الرمز ويجعلون له الفكر والأتباع، فتستكثر الكبائر وتستكبر الموبقات، وقد حل الرمز محل النص والفكر محل الهدي والأتباع محل الأمة، فيصير حينها من اليسير التسويق لمفهوم التطرف والترويج للإرهاب والتشدد والغلو، وحينها ينعت النص ويتهم الهدي، فتركن الأمة خلافا للأتباع إلى الوسطية والاعتدال وتعارف الذوبان والانبطاح، كل ذلك بمقاييس السيد الأبيض الذي أبدع عبر مؤسساته ذات الخبرة الإستراتيجية في إلباس الشرك والإلحاد والخرافة والكهنوتية عباءة الدين الوسطي الذي تشوبه قيم التسامح.
إن العلماني يمكنه أن يقبل بأحكام الإعدام والأحكام السالبة للحرية والتي قد يبلغ مداها الثلاثة قرون، ويقبل بقوانين تروم استئصال شأفة شرب الدخان وولغ الخمور ومواقعة الخنا طالما أن هذه القوانين مرجعيتها مدنية وضعية، لكنه بالمقابل سرعان ما يقلب العباءة ويجرد سيف الحقد من غمد المكابرة إذا كانت أحكام الإعدام والقوانين الرائمة التصدي لكل فحش وزيغ حائف متى ما كانت مرجعية هذه الأحكام إسلامية.
وهكذا فإذا كانت الحرب العلمانية على الإسلام قد اشتعلت نيرانها تريد حرق نصوصه التشريعية والنيل من صفاء عقيدته الغراء التي لازالت بفضل الله تسكن وجدان الأمة وتتوسط سويداء لبها وقرة جوهرها، فليس غريبا بعد هذا التسليم أن نستصغر حجم المزاعم الجديدة القديمة التي نراها اليوم تنفخ في ضرامها فلا يزال الرماد مخلصا لبؤرة الموقد، ولكن الغريب العجيب أن يبقى معشر العلماء والخطباء والوعاظ والفاعلين الدعويين وأصحاب المجالس العلمية ومهندسو ورش الإصلاح والهيكلة بمنأى عن هذه المواجهة، وبمعزل عن هذه المعركة التي لا نرى عذرا لأحد كائنا من كان من أهل التوحيد أن ينضم إلى جمعية الخوالف والقواعد من النساء والولدان وذوي الاحتياجات الخاصة، تحت طائلة تأميل خائب وطمع ثاقب وسراب هدنة يتربص بها المهادنون الفرصة للانقضاض على جيد الغيرة وجذوة الانتساب إلى هذا الدين العظيم.
إن من الواجب الشرعي الذي يفرضه صك الانتساب يجعل الكل بضابط الوسع والقدرة أمام واجب فرضه واقع ماله من دافع، ذلك هو واجب مواجهة هذه السخائم المارقة ليس بالرمز والفكر والأتباع، ولكن بالنص والهدي والأمة كل ذلك في دائرة الموروث النبوي الذي نملك من رصيده الكفاية الكافية والنصاب المستفيض لفضح الباطل وتعريته من الأصباغ التي تضفي عليه البريق الخادع، كل ذلك معذرة إلى الله ورغبا في أن تعود السخائم عن غيها وما ذلك على الله بعزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *