الأحكـام الشتـوية

هذا عرض مختصر مفيد لأحكام الشتاء؛ نستعرض أمورا تطرأ في هذا الفصل يحتاج المسلم إلى معرفة أحكامها؛ من أذكار وأدعية وأمور فقهية كالمسح على الجوارب؛ والجمع بين الصلوات.. وكذلك الأمور التي يستحب له اغتنامها في هذا الفصل.. وقد استللنا هذه الفوائد من (سلسلة العلامتين) الألباني وابن باز رحمهما الله تعالى وجعله في ميزان حسناتهما.

وصية عمر الشتوية
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا (وهي ما يلي البدن) ودثارًا (الملابس الخارجية) فإن البرد عدو سريع دخوله بعيد خروجه.
ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام.
ومن درر كلام الحسن البصري قال: نعم زمان المؤمن الشتاء ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه.
وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.
عن عمر رضي الله عنه قال: الشتاء غنيمة العابدين. رواه أبو نعيم بإسناد صحيح.
قال ابن رجب: إنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه.

الغنيمة الباردة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) رواه أحمد وحسنه الألباني قال الخطابي: الغنيمة الباردة أي السهلة ولأن حرة العطش لا تنال الصائم فيه.
قال ابن رجب: معنى أنها غنيمة باردة أنها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة.
فحري بك اقتناص هذه الغنيمة لا سيما في الأيام الفاضلة مثل الاثنين والخميس أو الأيام البيض ونحو ذلك.
الاستسقاء
وهو طلب السقيا من الله تعالى عند حصول الجدب بالثناء عليه والفزع إليه بالاستغفار والصلاة، وسبب الجدب والقحط وارتكاب المخالفات كما أن الطاعة سبب البركات.. قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) الأعراف:96.
وكثرة التوبة والاستغفار سبب لنزول الأمطار قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً، مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) نوح:10-13، ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أسقنا غيثُا مغيثًا، مريئًا مربعًا نافعًا غير ضار، عاجلاً غير آجل) رواه الحاكم وصححه الألباني، قال الشافعي: يستسقي الإمام بغير صلاة مثل أن يستسقي لصلاة.. وقال شيخ الإسلام: ويجوزون الاستسقاء بالدعاء تبعًا للصلوات الراتبة كخطبة الجمعة ونحوها كفعله صلى الله عليه وسلم.

إسباغ الوضوء على المكاره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذالكم الرباط) رواه مسلم.
قال القاضي عياض: وإسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحوه.
قال ابن رجب: فإن شدة البرد لدينا يذكر بزمهرير جهنم، فملاحظة هذا الألم الموعود يهون الإحساس بألم برد الماء.
مسألة: قال الشيخ ابن عثيمين عن بعض المصلين: لا يفسرون – أي يرفعون – أكمامهم عند غسل اليدين فسرًا كاملاً، وهذا يؤدي إلى أن يتركون شيئًا من الذراع بلا غسل وهو محرم، والوضوء معه غير صحيح، فالواجب أن يفسره كمه إلى ما وراء المرفق مع اليد لأنه من فروض الوضوء.
مسألة: لا بأس بتسخين الماء للوضوء، قال ابن المنذر: الماء المسخن داخل في جملة المياه التي أمر الناس أن يتطهروا بها. الأوسط 1/250.
وقال الأبي في إكمال المعلم 2/54: تسخين الماء لدفع برده ليقوي على العبادة لا يمنع من حصول الثواب المذكور.
فلا إفراط ولا تفريط والشرع لم يتعبدنا بالمشاق.
التبكير بصلاة الظهر عند شدة البرد
عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد يبكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة. رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.
قال المناوي عن التبكير: أي بصلاة الظهر يعني صلاها في أول وقتها وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.
قال ابن قدامة في المغني: ولا نعلم في استحباب تعجيل الظهر من غير الحر والغيم خلافا.
قال الترمذي: وهو الذي اختاره أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم: لأن المقصود من الصلاة الخشوع والحضور وشدة البرد والحر مما يشغل المصلي.
تغطية الفم في الصلاة ولبس القفازين
فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن السدل في الصلاة، وأن يغطي الرجل فاه. رواه أبو داود وغيره، قال الشيخ ابن باز رحمه الله: يُكره التلثم في الصلاة إلا من علة.
يجوز لبس القفازين؛ وهو أحد أقوال الشافعي وبه قال النووي، وأما من استدل بالمنع لحديث مسلم: (أمرت أن أسجد على سبعة أعظم) ويستدل به على كشف اليدين، فالرد عليه أن الركبة كذلك مغطاة بلا ريب فلا حجة في ذلك، قال ابن جبرين رحمه الله: يجوز للرجال والنساء لبس القفازين في الصلاة فإنه يحتاج إليه لبرد ونحوه.
الصلاة على الراحلة أو السيارة خشية الضرر
قال شيخ الإسلام: وتصح صلاة الفرض على الراحلة خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي.
وقال ابن قدامة في المغني: وإن تضرر بالسجود وخاف من تلوث يديه وثيابه وبالطين والبلل، فله الصلاة على دابته، ويومئ بالسجود.
وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق.
ما يقال عند هبوب الريح وسماع الرعد
ورؤية السحاب ونزول المطر
عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: “اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به”. رواه مسلم.
وقد نهى عن سب الريح فقال صلى الله عليه وسلم: (الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها) رواه أبوداود وغيره. والنهي عن السب وذلك لأنها مسخرة مذللة فيما خلقت له ومأمورة بما تجيء به من رحمة وعذاب.
وكان عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: (سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ثم يقول: إن هذا الوعيد لأهل الأرض لشديد). رواه البخاري في الأدب المفرد وسنده صحيح موقوفًا كما قال النووي.
وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئًا في أفق السماء ترك العمل وإن كان في صلاة ثم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من شرها)، فإن مطر قال: (اللهم صيبًا هنيئًا) رواه أبو داود بسند قوي، وعند البخاري (اللهم صيبًا نافعًا) وعند البخاري ومسلم (مطرنا بفضل الله ورحمته). الناشئ: السحاب الذي لم يتكامل اجتماعه، الصيب: هو المطر الذي يجيء ماؤه.
الدعاء لا يرد وقت نزول المطر
قال صلى الله عليه وسلم: (ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر) رواه الحاكم وحسنه الألباني، قال المناوي: أي لا يرد أو قلما يرد فإنه وقت نزول الرحمة.
عن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر فحسر -أي كشف- رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه المطر فقلنا يا رسول الله: لم صنعت هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه. رواه مسلم.

ما يقال خشية التضرر عند زيادة المطر
قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الحال: (اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم الآكام والضراب وبطون الأدوية ومنابت الشجر) رواه البخاري.
الآكام: التلول المرتفعة من الأرض، الضراب: الروابي والجبال الصغار.

نزع البركة من المطر
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليست السنة بأن تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئًا) رواه مسلم، قال النووي: المراد بالسنة هنا القحط.
الغريق: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشهداء خمسة.. فذكر منهم الغريق ) رواه البخاري، أي الغريق وهو الذي يموت غريقًا في الماء. شرح النووي.
ويستفاد من هذا الحديث في موضوعنا أن من غرق بنتيجة الفيضانات والسيول الجارفة في الشتاء أو غيره وكان على دين وصلاح وحسن حال يرجى له الشهادة كما هو نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إطفاء النار والمدفئة قبل النوم
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: احترق بيت في المدينة على أهله، فحدث بشأنهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن هذه النار إنما عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) رواهما البخاري ومسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وحكمة النهي هي خشية الاحتراق، ثم قال: قيده بالنوم لحصول الغفلة به غالبًا، ويستنبط منه أنه متى وجدت الغفلة حصل النهي. فيستفاد منه الحذر الشديد من إبقاء المدافئ مشتعلة حالة النوم والحوادث لا تخفى في ذلك؛ فلنتنبه.

النهي عن سبّ الحمى
عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب فقال: (مالك يا أم السائب تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها. فقال: لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب خبث الحديد) رواه مسلم.
معنى تزفزفين: أي تتحركين حركة سريعة ومعناه ترتعد، ففي الحديث النهي عن سب الحمى وكراهة التبرم؛ وأن الحمى تكفر الخطايا. والمناسبة مع الموضوع واضحة وذلك أن في الشتاء تكثر الحمى.
فائدة: قال ابن القيم رحمه الله عن الحمى: وأما تصفيتها القلب من وسخه ودرنه وإخراجها خبائثه فأمر يعلمه أطباء القلوب ويجدونه كما أخبرهم به نبيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن مرض القلب إذا صار ميأوسا من برئه، لم ينفع فيه هذا العلاج، فالحمى تنفع البدن والقلب وما كان بهذه المثابة فسبه ظلم وعدوان. اهـ.
وهذا لا ينافي أن العبد يبذل السبب في علاجها؛ فلكل داء دواء إلا الموت، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.

المسح على الجوارب والخفين والعمائم
الخف ما يلبس على الرجل مما يصنع من الجلد.
والجورب: ما يلبس عليها مما يضع من القطن ونحوه وهذا المعروف بـ(الشراب أو التقاشير) ثبت في السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمسح على الخفين.
شروط المسح:
1- إدخالهما بعد تمام طهارة الوضوء.
2- أن يكون طاهرين من النجاسة.
3- أن يكون المسح عليهما في الحدث الأصغر لا الأكبر كالجنابة أو ما يوجب الغسل.
4- أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعًا وهو يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر.
توقيت المسح:
1- يبدأ المسح من أول مسحه بعد الحدث وتنتهي بعد أربع وعشرين ساعة للمقيم واثنين وسبعين ساعة للمسافر؛ لحديث علي رضي الله عنه قال: (وقت لنا رسول الله في المسح للمقيم يومًا وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها) رواه مسلم.
2- إذا انتهت المدة وهو على طهارة مسحه لم ينتقض وضوءه.
صفة المسح:
أن يمسح الخف أو الجورب من أعلاه من أطراف الأصابع إلى ساقه لقول علي (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه) رواه أبو داود.
المسح على العمائم المحنكة في الحدث الأصغر:
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على العمائم كما رواه الترمذي؛
والعمائم هي عمائم المسلمين المحنكة -أي المدارة تحت الحنك- أو ذات ذؤابه –أي التي لها طرف مرخي– أما العمائم فلا يصح المسح عليها، ويدخل في العمائم ما يلبس في أسام الشتاء من القبع الشاملة للرأس والأذنين، وفي أسفله لفه على الرقبة فإنه مثل العمامة لمشقة نزعه ومثله خمار المرأة المدار تحت حلقه، وأما الغترة أو الشماغ أو الطاقية أو الطربوش فلا يسمح عليه لأنه لا يشق نزعه.

الأعذار المسقطة للجمعة والجماعة
يعذر بترك الجمعة والجماعة في الشتاء من حصل له من الأذى بمطر يبل الثياب ومعه المشقة أو وصل الطين أو ثلج أو بريح باردة شديدة لقول ابن عمر رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطر: صلوا في رحالكم) رواه ابن ماجة.
الجمع بين الصلاتين
يباح الجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، المغرب والعشاء في وقت أحدهما تقديمًا أو تأخيرًا للأعذار السابقة المسقطة للجمعة والجماعة ولو صلى الرجل في بيته إذا كان من أهل الجماعة، وأما المرأة والرجل المريض لا يصح جمعهم في بيوتهم.
والجمع رخصة عارضة للحاجة إليه لدفع المشقة عن المسلمين، ولذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرات قليلة، والحاجة والمشقة تختلف في تقديرها باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، لذلك قال ابن عباس: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر ولا مطر.. أراد ألا يحرج أمته). رواه مسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *