كيف قضت فرنسا على سلطة المحاكم الإسلامية*؟

قال روجي لوطورنو واصفا السلطة القضائية المغربية قبل الحماية: “كانت السلطات القضائية مطابقة لتنظيم أحكام القرآن (الشرع)، كما توجد في سائر الأقطار الإسلامية”. فاس قبل الحماية 310-318.
ويقول المسيو “روبير مونتين” في كتابه البرابرة والمخزن الصفحة 414: “إن التزامات المعاهدات الدولية تفرض وجود دولة مراكشية مشابهة للدولة الأوربية موحدة متمركزة، محكومة حكما نظاميا طبقا لقوانين محدودة معينة! فما هي هذه القوانين التي تسمح فرنسا أن يحكم بها المغرب؟ أهي قوانين الإسلام أم قانون فرنسا؟”.
الواقع أن تاريخ الاستعمار الفرنسي يحدثنا دائما بأن أهم غرض من أغراضه هو إدماج الأمة الواقعة تحت سلطته، وإقامة القانون الفرنسي فيها -كاملا أو مبتورا- على أنقاض قوانينها الأولى، وصرح ليوطي بأن “تأسيس عدلية منظمة كاملة، هو على رأس الالتزامات الجوهرية التي يتضمنها انتداب أوربا لفرنسا في المغرب الأقصى!” ليوطي والمغرب ص 131.
فالمغرب لم يكن يعرف قبيل الحماية من المحاكم إلا نوعين اثنين: المحاكم الإسلامية لجميع المغاربة من رعايا السلطان، والمحاكم القنصلية للأجانب من رعايا الدول الأجنبية والمحميين بها.
وقد صدر ظهير باسم السلطان مؤرخ بتاريخ 31 أكتوبر 1912 يؤسس لمشروع المحاكم الفرنسية، واجتمعت لجنة في باريس من المستشارين، وكونت نظاما قضائيا، يقول عنه “أوكستان برنار” في كتابه مراكش الصفحة 404: إنه “نظام سهل واضح مستمد من أحدث المبادئ في مختلف القوانين الأوربية” ويقول عنه: “إن جهودا كبيرة بذلت في سبيل تبسيطه وجعله ملائما لجو المغرب!”.
لم تنته عشرة أشهر من إعدادات اللجنة الباريزية وتقديم مشروعاتها القضائية، حتى صدرت سلسلة من الظهائر بتاريخ 12 غشت 1913 لتقرير مشروعات باريس تقريرا نهائيا! وبعد صدور هذه السلسلة بنحو ثلاثة أسابيع، صدر أمر عال، مؤرخ بتاريخ 7 سبتمبر 1913 يسمح بإنشاء المحاكم الفرنسية في المغرب إلى جانب المحاكم الإسلامية، فأنشئت محكمة الاستئناف الفرنسية في الرباط، وأسفي، وفاس، ووجدة، وظلت هذه المحاكم تمتد وتنمو كل سنة إلى أن أصبحت تتولى الحكم في القضايا الجنائية والمدنية والتجارية والعقارية.
ويحدثنا “لويس باترو” بأن هذه العدلية الجديدة: “قامت على أسس تضمن مصالح الدولة الحامية، ومصالح الفرنسيين ومصالح الأجانب”.
كما أن فرنسا عملت على تهميش القضاء الإسلامي وذلك بإخراجه من ميزانية الدولة المغربية، ولا يجد الباحث له ذكرا في أي قسم من أقسامها، وأما القضاة الشرعيون فقد أخرجتهم من دائرة الموظفين الذين ترتب لهم الدولة معاشات خاصة مقابل أعمالهم التي يؤدونها، وضمت جميع الاختصاصات المهمة التي كانت تعالجها المحاكم القضائية إلى محاكمها الخاصة، وإدارتها الفرنسية المختلفة، وعبر “أوجست تيريير في كتاب مراكش 113” على هذا الوضع بقوله: “إن وظيفتهم ليس لها أية مكافأة ولا أي مرتب، وإنما عينت لهم حكومة الحماية أن ينالوا من كتّاب العقود ثلث الأجر الذي يأخذونه عن كل عقد!”.
وقد ظلت فرنسا طلية مدة احتلالها للمغرب تصدر الظهائر الشريفة، والقرارات الوزيرية باسم “الإصلاح القضائي” سلسة بعد أخرى، ولم تزل تنتقص من سلطة القضاء الإسلامي شيئا فشيئا إلى أن أصبحت المحاكم الإسلامية لا تكاد تتجاوز مسائل الطلاق والنكاح والإرث.
كما بلغت الجرأة بالمحتل إلى التطاول على حرمة القضاء الإسلامي، وذلك بنصبها مراقبين يجلسون إلى جانب قضاة الشرع، يتدخلون في أحكامهم، ويتجرؤون على الفصل في القضايا الشرعية التي تعرض عليهم، حتى لم يبق للمحاكم الإسلامية وجود معنوي، ولم يبق للقضاة الشرعيين أدنى استقلال في عملهم الخاص.
هذه بعض الإجراءات التي اتخذتها فرنسا لإضعاف المؤسسة الأقوى في البلاد المغربية، لأنها تحكم بشرع الله، وعندها السلطة المادية والمعنوية التي تجعل كل رعايا الإيالة المغربية بما فيهم السلطان يخضع لحكم القضاء الشرعي.
ولما حصل المغرب على استقلاله لم يقم بإعادة السلطة للقضاة الشرعيين، ولم يرجع التحاكم للشريعة الإسلامية التي كانت تطبق قبيل فرض الحماية على المغرب، بل سار على الطريق الذي رسمه المحتل الفرنسي إلى يومنا هذا.
…………………………………………………
*للتوسع في هذا الموضوع طالع فرنسا وسياستها البربرية في المغرب الأقصى للعلامة محمد المكي الناصري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *