دور فساد الحاشية السلطانية في تسريع وتيرة احتلال فاس
جاء في كتاب “الإتحاف” لابن زيدان (ج:2 ص:41) في ترجمة مولاي إدريس الأمراني بن عبد السلام، ما يلي:
“رشحه مولاي حفيظ لإخماد نيران فتن البربر التي ثارت عليه، وشقت عصى الطاعة وتمردت، وعاثت في السبيل، وخيمت بـ”راس الماء” قرب فاس، وقطعت المواصلة بين فاس ومكناس، بل سائر الجهات، ومدت يد النهب والسلب في المارة وبالأخص “سايس”، وذلك بإشارة من بعض من له في المترجم شهوة وغرض، “بمعنى كره وبغض، لأنه كان يعرف أن وساطته ستكون عليه وبالا إن لم يكن من جهة القبائل ، فسيكون من جهة السلطان، وهو ما سيتضح لاحقا”، وأفرغ ذلك للسلطان في قالب أن القبائل البربرية خدمة للشرفاء الأمرانيين، لا يرفعون أمامهم رأسا، ولا يردون عليهم كلاما، ولا يعصون لهم أمرا.
ولما استقر ذلك في ذهن السلطان، أمر وزيره الصدر الأعظم حينه، المدني محمد لكلاوي بأن يأمره بالتوجه لهذه المهمة، إلا أنه اعتذر، ولم يأل جهدا في التنصل، وذلك بعد أن كان السلطان وجه لهم -للتفاوض- القائد عبد المالك لمتوكي، حيث اجتمع بذوي رأيهم قرب دار الدبيبغ، وراجت بينه وبينهم المخابرة في الرجوع عن البغي والتمرد، وتحمل لهم بكل ما يرومونه من السلطان، ولم تحصل من تلك المخابرة أدنى نتيجة سوى تسريح أسراهم الذين كانوا في سجون فاس.
ولما سرحوا تمادوا في طغيانهم، بل ازدادوا عتوا وفسادا، وحاصروا فاس حصارا شديدا، وحاولوا تشتيت محلة السلطان، التي كانت مخيمة بمصلى “باب الساكمة” أحد أبواب فاس الشهيرة، وعين قادوس، والاستيلاء على ذخائرها وعددها، واقتحام فاس، وصمموا على ذلك، فكانوا كل يوم يهجمون على تلك المحال ذات العدة والعدد، ويشتد القتال بين الفريقين، وتبقى الجثث مبعثرة طعمة للكلاب والغربان.
ولما لم تقبل منه مرة، أخذ على الوزير لكلاوي العهد والميثاق، على أن لا يخفر له ولا لهم ذمة، إن هم أجابوه للرجوع إلى الطاعة، وتكفل له بذلك قنصل الدولة الفرنسية، إذ ذاك بفاس المسيو “كيار”؛ فعند ذلك وجه بعض أصحابه لمن له بهم معرفة من أعيان البرابر يستأذنهم في الخروج إليهم، فأجابوه لذلك، فخرج إليهم لـ”راس الماء”، وفي معيته أخوه العدل الرضي مولاي “سعيد”، فتلقوه بالترحيب والإجلال، وأظهروا له من الخضوع والانقياد ما لم يخطر له ببال، وأمسكوا في ذلك اليوم عن الهجوم على المحلة احتراما له وتعظيما، وظل يومه يعظ ويذكر، ويحذر وينذر، ويعد ويمني زعماء أولئك الأوباش الأنجاس، كي يردهم عن طغيانهم، فتصدى للكلام معه من رؤساء فتنتهم القائد “حمو الحسين المطيري البورزوني”، والقائد “عقا المطيري البودماني”، والقائد “محمد بوزومة الأغوطي”، والقائد “محمد بوكرين المطيري”، وغيرهم من أركان البغي والعتو.
وبعد أخذ ورد، تحملوا له بتشتيت تلك الجموع، وتفريق كلمتها بكيفية لطيفة معينة على نقض ما أبرموه وتحالفوا عليه، وجعلوا معه على ذلك جعلا يؤديه لهم نقدا معجلا، يفرقونه على رؤوس تلك القبائل وذوي الرأي منهم، فالتزم لهم بذلك، وأخذ منهم عمامة، وأخذوا منهم برنوسا على العادة البربرية في التحالف على عدم التخالف؛ وطير الإعلام للسلطان بالنتيجة، فأجابه بواسطة وزيره لكلاوي بالمساعدة التامة على إمضاء ما أبرمه.
وكانت مدة مقامه بين ظهرانيهم يومين بلياليهما، فما راعه إلا ورقاص متأبط لكتاب لـ”عقا” و”بوزومة” المذكورين من بعض رؤساء المحلة من خاصة حاشية السلطان، يأمرهما برفض مطالب المترجم رفضا كليا، وأن يعيراه أذنا صماء، ويردانه خاسئا، وحذرهما من صدور هذه المزية على يده، فقلبوا عليه ظهر المجن، وأظهروا له من النفور والجفاء ما صيره في حيص بيص، يتوقع الإيقاع به، واحتجوا عليه، ثم بعد محاججة ومراجعة، منهم من رجع إلى الانقياد، ومنهم من تمادى على النفور والشرود، ومنهم من أظهر الطاعة وأصر على المخالفة والشقاق، وكان آخر اتفاق وقع بينهم أنهم وقت ما أمكنهم تفريق كلمة تلك الجموع يطيرون الإعلام إليه ليأتيهم بالدراهم المتفق عليها، وبظهير سلطاني بالعفو عمى جنوه، والقبض على صاحب الكتاب الساعي في دوام توقد نيران الفتن، وتوليته خليفة عليهم واسطة بينهم وبين السلطان.
وبعد تحمله لهم بما ذكر، رجع لفاس، وتلاقى مع السلطان، وقرر له جميع ما راج من المبدأ إلى المنتهى، فأجابه بجميع ما اشترطوه، إلا القبض على صاحب الكتاب، وأمر الوزير الصدر بكتابة الظهير بما ذكر، وتنضيد 8000 ريال، 40000 فرنك، وتمكين صاحب الترجمة من الجميع، وإلزامه الرجوع إليهم في حينه، وعدم سماع كل عذر يبديه في التخلف، فامتثل ووجه لهم رسولا يخبرهم برجوعه.
ولما وصل الرسول، وقص على الأصدقاء منهم القصص، أخفوه عن أعين رؤساء العتو المظهرين خلاف ما يبطنون، ورجعوه إلى مرسله، وحذروه من الخروج قبل القبض على من اشترطوا القبض عليه، وعرفوه إن خرج إليهم قبل إذنهم له، ووقع في محذور، فإنهم لا يغنون عنه شيئا، وربما كانوا عليه، هذا والأوامر المخزنية تتجدد وتتوارد بالإزعاج للخروج، فخرج.
ولما وصل “انزالة فرجي” خارج باب فاس، وجد ومن معه مدافع المحلة تصب قنابلها صبا، فتقدم لوقف المعركة، ونجح في ذلك، ولما وصلت أحماله وجهها مع أخيه في خفارة بعض بني امطير، ورجع هو إلى فاس للقاء السلطان للمفاوضة، فتعرضت له شرذمة من الفساد، وجردوه من ملابسه، وأخذوا فرسه، ولولا رجلا من قبيلة “مجاط” رق لحاله وأركبه فرسا، وألبسه برنسا، لهلك.
ولما وصل المحلة السلطانية، أعاد الفرس والبرنس لصاحبهما، ثم دخل فاس، وقد تعرض أخوه لمثل ما وقع له، وبقي الوزير يطالب الشريف بالمال المنهوب؛ وأما العتاة فزاد تماديهم في الهجوم على المحلات المخزنية في كل بكرة وعشي، وأجلبت بخيلها ورجلها، وضيقت بالعاصمة الفاسية، وقطعت عنها السبل، وحاصرتها ونازلتها بين أسوارها، حتى فنيت صناديق رجال المخزن وعدمت أمواله، وأصبحت المدينة وأهلها في خطر عظيم، وصار الكور والرصاص ينزل أمام السلطان بعقر داره، وأحزاب العتو والفساد في هياج، حتى صارت تشترط على السلطان الشروط، وتهدده وتأمره بالرجوع للجادة في زعمهم، وإبعاد بطانته السوء عنه، وحصروها في أفراد من حاشية بساطه، وعظماء دولته سموهم له، وإعطائه كفيلا لهم يرضونه، يلتزم بالوفاء بجميع ما شرطوه.
فعند ذلك اضطر السلطان إلى الإرسال لدولة فرنسا، يستنجد بها، فلبت طلبه، ووصلت جنودها لفاس، ومزقت جموع أحزاب الفئة الباغية كل ممزق، وانتشرت أعلام السلم”. (ص.ص:42-48).
تأريخ بنظرة الغزاة
لا يمكن أن نقول غير هذا عن الذي أوردناه، من كتاب “الإتحاف”، خاصة وأنه سيهدى للمقيم العام “لوسين سان” الذي سيثني عليه، لقد كان حريا به أن يبتعد عن الأوصاف القدحية التي تحفل بها الكتابات الاستعمارية العنصرية، وحتى لو سلمنا بأنه مؤرخ السلطان، فالسلطان كان أقل فحشا وهو المستهدف بالنقد والتجريح لتبرير مواقفه تحت إكراهات رآها ملزمة له في العلاقات الدولية، عله ينقذ ما يمكن إنقاذه.
لقد صب جام غضبه على معارضي سياسة السلطان، دون أن يلتفت إلى ما تتعرض له البلاد من غزو وما يحيق بها من دمار، وهو منهاج اتبعه عندما تحدث عن تدمير الدار البيضاء، فلم يتعرض للمذابح التي ارتكبتها القوات الغازية، انطلاقا من واحات تافيلالت، وقصور فكيك، وسهول ملوية ومرتفعاتها، ناهيك عن المدن والقصبات التي أحرقت بقنابل المنيليت، والتي لم تذكر في ثنايا الكتاب، بخلاف ما فعل العلامة المختار السوسي الذي وثق لها في كتابه “المعسول”.
إن الحديث عن البطانة الفاسدة من طرف القبائل المحاصرة لفاس، يبين أن المطلوب لم يكن الإطاحة بالدولة، ولا المساس بشخص السلطان، وعدم الخضوع للقانون، وإنما كان المطلب هو الحيلولة دون الغزو الفرنسي الذي كان في هذه الفترة قد أحكم خطته، ولم يبق له إلا تنفيذها، خاصة بعد قبول السلطان للتحملات المالية، وما رافقها من شروط مجحفة جعلت مراقب الدَّيْن الفرنسي يقول في الاحتفال بالذكرى الفضية لإبرام القرض المالي الفرنسي في 4 ماي 1910: “لقد كان الإقرار بمراقبة الدَّيْن بمثابة حماية حقيقية، لذلك تعتبر إدارة مراقبة الدين الذي نص عليه اتفاق السلف، الآلية التي أوجدت حتمية احتلال المغرب، ليس فقط من أجل المستقبل، ولكن للمحافظة على وضعنا -فرنسا- بإفريقيا، لذلك يجب الإقرار بأن الاعتراف بمراقبة القرض في المجال الاقتصادي، قد فتح الطريق للحماية الفرنسية بالمغرب”.
Le contrôle de la dette marocaine un jubile 1910-1935
E. Luret, ancien directeur général des services du contrôle de la dette marocaine