بعد احتلال العاصمة فاس، والسيطرة على مكناس، وتأمين الطريقين الواصلتين بينهما والرباط، سواء المارة عبر القنيطرة والقاطعة سهل الغرب وقبائل بني احسن واشراردة، أو السالكة غابة معمورة وسط قبائل زعير وبني امطير، والتي شاركت القوات السلطانية، أو بالأحرى القوات السلطانية المرؤوسة من طرف ضباط البعثة العسكرية الفرنسية وكوم الشاوية، الذين كان لتمركزهم في طليعة القوات الغازية أثر في تفريق كلمة المقاومين الذين وجدوا أنفسهم في حرج من أمرهم، يتساءلون عن شرعية قتال إخوان لهم مغاربة أو مسلمين جزائريين وتونسيين تحت راية السلطان، في حين أن هناك من لم تنطل عليه الحيلة وقال بأن السلطان لم يعد يملك من أمره شيئا بعدما سيطر الفرنسيون على المالية والإدارة والجيش، وهو السبب الذي أدى إلى خلع بيعة المولى عبد العزيز ومبايعة المولى عبد الحفيظ، وأنه لا يمكن بحال الخضوع لسلطة النصارى، لذلك واصلوا المقاومة مثلما واصل الغزاة تفكيك مقومات البلاد والاستحواذ عليها جزء جزء، تطبيقا لنظرية بقعة الزيت، واستغلال السكان الخاضعين المتعاونين مع الغزاة في توسيع دائرة المناطق المحتلة.
يقول بيير كورات: «لقد عوض الجنود الملونين المأخوذين من القوات الكولونيالية اقتصاديا المفارز الفرنسية، وأن الفيلق التاسع عشر للفيف الأجنبي كان يختار عناصره من الجزائريين والسنغاليين، وقد قام القناصة الجزائريون بدورهم عندما أدخلوا في عمليات غزو المغرب وأثناء عمليات التهدئة، ولم يكونوا سيئين، فقد كانوا محتاجين فقط لقوات أوربية لتدريبهم، إلا أن تغذيتهم كانت معقدة، مع الإشارة لتوافقهم مع التونسيين والمغاربة في الأصل واللغة والدين، مما جعل تساكنهم في الثكنات لا يخلق أي إشكال.
إذا كان المغاربة هادئي الطبع دينيا، فإن متعصبي الجزائر من المتدينين بإمكانهم استثارة حميتهم من خلال توجيه ما يقوم سلوكهم بحيث يتوصلون في بضعة أيام إلى تواجه الصليب والهلال، الفوضى المطلقة للإسلام الملهم في مكان آخر أيضا قلق حتى لا نهتم مجانيا بسهولة المغرب» ص.273.
وفي نفس التقييم يقول القبطان سيصالدي، صاحب كتاب في «بلاد البارود» تحت عنوان «السلام الفرنسي»: «هؤلاء المغاربة يتركون محاريثهم وقطعانهم ويثبون لحمل السلاح للوقوف أمام قواتنا، العربي كيفما كان لا يخضع إلا لمن يستند على السيف، لقد عاد سكان الشاوية لحقولهم بعد العقاب الذي سلطه الجنرال دماد بواسطة قنابل مدافع ورشاشات قواته التي لا تقهر أثناء اجتياح أراضيهم، فركنوا للسلم بل أصبح خصوم الأمس أصدقاء لنا، فقد قام الذهب الفرنسي والدورو بتحويل كبير في بلاد الشاوية حيث ما زال صدى دوي المدافع غير بعيد عن مسامع السكان الخاضعين لنا.
لقد انتهى الصراع الداخلي الذي كان يجعل القبائل تهاجم قصبات القياد بعد احتلال الرومي لها» ص.35.
المشكل العسكري بالمغرب
تحت هذا العنوان ناقش بيير كورات مسألة وجود قوات الغزو الفرنسي، وتكوين رديف محلي لها من سكان المغرب عبر فرق الكوم التي انطلقت من ستة أفراد من اولاد سعيد بالشاوية مع الجنرال دماد، لتتحول إلى فيالق تقاتل في فرنسا نفسها في الحربين العالميتين لتحررها من الزحف الألماني.
يقول كورات: «عندما تسوى كافة الصعوبات الدبلوماسية مشروعنا المصمم عليه بالمغرب سيتم قبول عساكرنا من طرف الساكنة نظرا لمهمتهم السامية كيفما كان مقدار توسيع سلطتنا في المنطقة الأكثر تأخرا في بلاد السيبة التي تتطلب كثيرا من الصبر والتوجه بسرعة وعنف، يجب توقع عمليات من عدد من القبائل حيث القوة هي آخر ما يقال عندهم» ص.237.
ويضيف بأن «قوات القبائل المعادية الموضوعة على طول خطوطنا تتكون من مشاة سيئي الرماية، وفرسان يتجنبون الدخول لعمق المعارك، لذلك فهم ليسوا بالخطرين وإن كان سلاحهم مزعجا وكذا تحركاتهم، فمنذ اللحظات الأولى لوجودنا بالمغرب نظم قادتنا العسكريون تحت اسم «كوم الشاوية» قوات نظامية مساعدة في العمليات القتالية، ينمى دورها تدريجيا لإبراز قدرتها وكفاءتها، وقد عهدوا لأفراد «الشؤون الأهلية» وتأطيرهم من طرف الضباط وضباط الصف الفرنسيين، واصبيحية وقناصة جزائريين، وقد قدموا خدمة كبرى في تهدئة الشاوية، وعند الذهاب إلى فاس، والعمليات اللاحقة ضد بني امطير وازعير، حيث عملوا كمستطلعين ومقاتلين، لشجاعتهم وبساطتهم وقدرتهم غير المنازع فيها، وقد أدى رونق لباسهم المتميز إلى ضرب مخيلة الزهو الشعبي بالغرب، بحيث أصبح كثير من خصومنا بالأمس، سعداء بارتداء بذلة الكاكي والمعطف الأزرق، مما يعد نجاحا يصب في مصلحة جنودنا، حيث سيقوم الكوم بمهام معاقبة القبائل غير الخاضعة لنا، والمجاورة لمراكزنا، وكذا النهاب الذين كان «ضباط الاستعلامات» ضحاياهم، كما سيشرفون على الاختيار الصارم للمرشحين من رجال آخرين مماثلين من القبائل، أقوياء مشاة وفرسان يحسنون الرماية والركوب، وبذلك ستصبح مهمة البحث عن مصادر المرشحين وظيفة مهمة داخل المغرب لأنها ستعطينا ما نحتاج له من جنود الأهالي، مما سيسمح لنا بوضع نهاية لعملية تنظيم جيش شريف، هذا الجيش الذي سيصبح فضلة بعدما سيصير غير نافع بل مزعجا لنا، وإذا ما أريد الاحتفاظ بطوابير البوليس المغربي في الموانئ كدرك بحري فلن يكون على منوال المحلات التي كانت حول فاس، والتي يظهر صخبها أكثر من فعاليتها.
فعلى الحركة الشهيرة للسلطان أن تتحول إلى قوة عادية احتفالية استعراضية شبيهة بحرس باي تونس، بعدما تبين عجزها عن نجدة فاس، أو احتلال صفرو ومواجهة بني امطير وزعير» ص.270.
عمليات ناحية صفرو
«عاد الجنرال موانيي إلى ناحية صفرو التي اضطربت بواسطة آيت يوسي التي أقلقت السلطان، بعدما ضمن خضوع بني امطير بواسطة قائدهم بودماني الذي أعلن ولاءه للجنرال دالبيز، بعد تدمير قصبته وحرق دواوير قبيلته.
وصل موانيي إلى فاس يوم 31 غشت 1911، وكانت صفرو محاصرة، كانت التعليمات الموجهة للحملة تقتضي التعاون بين القوات الفرنسية لضمان أمن المدينة المحاصرة.
غادر الجنرال دالبيز صفرو يوم 4 شتنبر 1911، تاركا بها حامية شريفة مهددة من قبل آيت يوسي الثائرين دون أن يقاتلوا كولون دالبيز، أرسل الكومندار بريموند لفك الحصار على المدينة يوم 11 شتنبر 1911، وبعد معركة قاسية خسر فيها بريموند 6 قتلى و15 جريحا، لكن تمت مهاجمته مرة أخرى في معسكره قرب صفرو وبقيت المحلة الشريفة تنتظر دعم دالبيز لتخليص المعسكر.
جاء الدعم سريعا حيث قدم دالبيز مصحوبا بـ2400 رجل لنجدة بريموند يوم 15 شتنبر 1911، مكونين من قوات شريفة وأخرى فرنسية توجهت إلى مزدو، مركز تجمع الأعداء الذين تشتتوا يومي 17 و18 منه.
ظهور القوات في السهول التي اعتقد المتمردون أنها منيعة حدد عدد الخاضعين، فسادت السكينة وتركت قوة هامة بالمدينة وعاد دالبيز إلى مكناس، وبذلك تكون المرحلة الأولى من العمليات العسكرية بالمغرب قد انتهت، وتوجه موانيي إلى فرنسا للتشاور مع الحكومة الفرنسية» ص.264.
«لقد عرفنا بالتجربة أثناء السير إلى فاس أن الاتحاد العام للقبائل المنشقة مستبعد تماما، وكذلك أثناء عمليات مكناس وبني احسن وزمور وكروان وبني امطير وزيان وغيرهم، فقد قاتلت القبائل منفردة معزولة محليا، وذلك التباعد أجهض كل مخطط الوحدة ضد الغزاة.
كورو أثناء معركة مشرع بودراع وانزالت بني عمار، وموانيي أثناء معارك لبهاليل ومكناس، ودالبيز أثناء عمليات صفرو، وبرانليي في جولاته حول مغشوش لم يجدوا أبدا أمامهم أكثر من 2000 محارب عدو، إنهم أقوى من قبائل الأطلس أو أعالي ملوية، يقومون بمجهودات ضخمة إذا ما اخترقنا حدودهم، نحن إذن محتاجون لأعداد مرتفعة في كل ناحية من الغرب حيث المتمردون بإمكانهم تحريك مجموعة من 2000 بندقية، مما يتطلب الاعتماد في مواجهتهم على نظرية «بقعة الزيت».
بإمكاننا تدريجيا إقامة حكم السلطان وسلطتنا في مختلف النواحي بالمغرب بين السكان، دون فصلهم عن جيرانهم بمنافسة غابرة وكره عرقي تمايزي شيئا فشيئا، سنستخدم الأهالي ضد بعضهم من أجل تحقيق مشاريعنا، ونستعمل كفاءتهم الحربية على التخوم الخاضعة وعمليات التهدئة من أجل هذا سيكون للكوم الدور الرئيسي» ص.270.