يقول أندري آدم: “بعد مرور 440 سنة على تدمير الأسطول البرتغالي في مدينة آنفا جاءت بوارج أسطول آخر لقنبلة المدينة التي خلفتها: الدار البيضاء”، وذلك في 5 غشت 1907 (في سيناريو متفق عليه) بين رونو الوزير الفرنسي المعتمد بطنجة وقائد الأسطول الفرنسي الذي أوصاه بـ(لنرد بحدة إذا كانت لدينا الوسائل دون طلب تعليمات.. لا تهاون من أجل شرعنة العملية بما يناسب ويقتضي للمصادقة والحصول على موافقة الحكومة المغربية وتبرير الفعل أمام الرأي العام الفرنسي والدولي).
لقد طلب رونو من القبطان أوليفي وقائد جاليلي بالمرابطة قبالة الدار البيضاء واتباع التعليمات التالية: “أنت مثلي تعرف ما يلزم ضرورة بالنسبة لفرنسا وهو أن تكون أول من يصل إن أمكن لحماية أرواح وممتلكات الأجانب وستصرحون للحكومة بأن فكركم استجاب فقط لحياة مواطنين، اجتهد في تأمين تحركك بالاتفاق مع القنصل عند بداية الإنزال، لا تتأخر في القصف إن احتجت لحماية المعمرين الأجانب، اعمل على استقدام دوشيلا التي توجد في الشاطئ الجنوبي، اطلبها الآن للالتحاق بك في الدار البيضاء” ص:113.
وفي نفس الوقت بعث رونو ببرقية إلى الطريس ممثل السلطان الذي كان في فرنسا والتي يقول عنها ………. إنها كانت مكتوبة تنتظر التوقيع فقط: (احرص بسرعة على اتخاذ ما يلزم من أجل تلافي أكبر مأساة)، هذا ما كتبه سان أولير المكلف بالشؤون الفرنسية بطنجة وقتها، لكن بعد مرور 34 سنة على وقوع المأساة أي سنة 1950 يظهر فيه حقيقة ما وقع في الدار البيضاء، حيث اعتبر أن ذلك الإنزال والتدمير كان أساس الحماية الفرنسية) مرجع سابق.
يقول ولتر هارتس: “عندما قصف الفرنسيون الدار البيضاء فتحوا الطريق لاحتلال المغرب بالكامل، لقد اقتحموا دارا كاملة مسكونة بالريبة والحذر والتعصب والكره، يعتبر سكانه أن بلادهم محصنة بالإيمان ويعتبرون المسيحيين عنصرا بغيضا متهما في دينه بلا مروءة ولا كرامة ظانين أنهم بأسلحتهم الإسلامية القليلة والبسيطة سيستمرون في هزم كل أسلحة المسيحيين بالعالم مرددين: قنابلكم ورصاصكم لا تسوى فلسا لأن أولياءنا وشرفاءنا يحموننا ولا يتركون الكفار يحتلون بلدنا لأن الله يحمينا، العواصف ستغرق بواخرهم وجنودهم إذا سولت لهم نفسهم النزول فإن ضربات رجالنا سترمي بهم إلى البحر” ص:02 المغرب المختفي.
ترى كيف جرت المأساة وكيف قتل الفرنسيون المتحضرون ما بين 600 و1500 مسلم بالدار البيضاء داخل الأسوار وخارجها وهدموا ثلثي المدينة مقابل مقتل بحار وجرح 19 آخر منهم 3 ضباط في إطلاق لـ600 طلقة مدفع من عيار 14 سنتم و47 ملم، في غضون 36 ساعة من بينها قنابل الميناجيت الحارقة التي كانت تقذفها البارجة دوشيلا، ينضاف إليها ما تم نقله من البارجة جاليلي من ذخائر وأسلحة يوم 3 غشت، وحملها إلى القنصلية الفرنسية بالدار البيضاء عبر ثلاث دفعات ضمت صناديق بها 1000 رصاصة، ومدفع من عيار 65 ملم ستضرب به الصومعة يوم 5 أوت ” ص:118 أندري آدم.
ولم يأت يوم 7 غشت حتى وجدت المدينة خالية من سكانها ولم يبق ما يحرق أو ينهب أو يقتل أو يغتصب (ص8 كراسي)، من طرف الأسطول المكون من البواخر، جاليلي دوشيلا وفوربين والباخرة الإسبانية ألفارو دوبازان: (كانت رائحة الموت والدم تملأ المدينة والحرائق تعم كل شيء)، عندما بدأ إنزال القوات البرية الفرنسية هذا يوم (7 أوت) المكونة من 2000 رجل استقدمت من الجزائر لقيادة الجنرال درود والاتفاق مع الحكومة الاسبانية التي بدورها ستبعث قوات لعين المكان تحت غطاء كثيف من مدفعية الأسطول الراسي في الميناء ويضيف كراسي قائلا: “لقد مكنت حيوية ونشاط بحارتنا والقناصل من إبعاد الخطر عن الأوربيين ومنع عودة هؤلاء الوحوش الهائجة لتهديدهم وإفزاعهم تطبيقا للتعليمات الصادرة عن الحكومة الفرنسية باتخاذ اللازم لمواجهة الأخطار الجسيمة بالدار البيضاء بواسطة القوات البحرية والبرية”. وهو ما تم بالفعل حيث تم إنزال 10 بحارة من جاليلي يوم 2 أوت لحراسة القنصلية الفرنسية مع أسلحة وذخائر في صناديق تحمل علامات مصبرات حتى لا يلحظ ذلك الحراس المغاربة في باب المرسى، وذلك لمساعدة المدنيين الفرنسيين كانوا قد نزحوا إلى باخرة انجليزية مرابطة في الميناء ثم تبعهم 60 آخرون يوم 5 أوت يوم الهجوم، ويوم 6 منه قامت شركة التفريغ والإنزال بالميناء لتكوين فرقة من 45 فردا تحت إمرة ضابط نزلوا إلى الأرض تحت نيران كثيفة من المغاربة وانضموا إلى بحارة جاليلي ودوشيلا التي بدورها أنزلت حوالي 75 بحارا، والمدمرة الإسبانية ألفارو أنزلت 20 بحارا، والفرنسية فوربين أنزلت 44 بحارا.
وبالرغم من كل هذا الكم الهائل من البحارة الذين نزلوا لحماية أجانب كانوا محميين من طرف القوات المغربية سواء في القنصليات التي كان يرابط أمامها 15 جندي قتلوا من طرف بحارة جاليلي بمجرد وصولهم إليها يوم 5 أوت أو متن باخرة انجليزية في المرسى، ولو أن سكان المدينة والنواحي جاؤوا لحصار الميناء وفرض مطالبهم برفض احتلال البلاد أرادوا الفتك بالجالية الأوربية التي كانت تعدادها آنذاك حوالي 1000 نسمة في الأيام الواقعة ما بين 31 يوليوز و5 أوت لما ردعهم رادع إذ الأسطول خارج مياه الدار البيضاء، ولكن الهجوم كان مبيتا كما قال سان أولير المكلف بالشؤون الفرنسية بطنجة.
كما أن مراسل جريدة matin هول الذي وصل يوم 2 غشت قال إنه تجول في المدينة في اليوم الموالي لوصوله أي 3، حيث زار القنصلية الفرنسية وذهب إلى الفندق الذي أقام به مرفوقا بجنديين مغربيين وتلاقى بالطبع في الطريق مع معادين على الأقل في الحي الشعبي التناكر حيث رأى تواجد الكثير من الناس (صامتون منعزلون)، طريقهم نشيط لكن (في هدوء مريب)، إلا أن ما فوجئ به هو أن الملاح كان أكثر حركة والمحلات مفتوحة ولا أثر للنهب ولا للحرائق وكنيسة الفرانسيسكان مفتوحة على مصراعيها ولا شي يوحي بأن الأوضاع حساسة” ص116 أندري آدم.
كما أن مراسل لوفيغارو بوردون نقل مشاهداته يوم الأحد 4 غشت على الساعة السادسة مساء حيث كان على متن جاليليو عندما زارها القنصل نيكرت فتحلق حوله الضباط الشباب وممثلي شركة التفريغ والإنزال وهم يرددون: (الثأر للفرنسيين الثلاثة) يلزم (شرف فرنسا).
نيكرت رفض الإنزال، أحد ضباط الشباب فاجأه بالقول: “دعهم يدوسون علم فرنسا بالأقدام”، انزعج القنصل ودخل عند الكومندار وقدم له إذعان الباشا لطلب القبض على الجناة الذين شاركوا في قتل العمال التسعة يوم 31 يوليو ورفضه إنزال البحارة إلى المدينة، لكن القبطان أوليفي اعتبر كلامه مزحة ورفض الموافقة على اتفاق يقضي بأن يوقع الرجلان على أن تضمن جاليلي الأمن وليس الردع.