هذه الحادثة تبرز بجلاء ووضوح مدى تطابق الفكر الاحتلالي للدول الأوروبية في حملاتها الصليبية الشرسة ضد العالم الإسلامي والعربي، فليست أهدافها متطابقة فحسب، بل الأساليب والوسائل المتبعة للوصول إلى هذه الأهداف كذلك، وهذا يؤكد على الأهمية القصوى لدراسة التاريخ دراسة واعية ومستفيضة.
كانت بلاد المغرب من أكثر بلاد الإسلام استقلالاً عن أي خلافة، فهي لم تخضع سوى للخلافة الأموية فقط، وبعدها خضعت لعدة دول محلية أو مجاورة قامت بها مثل دولة الأدارسة والفاطميين ثم المرابطين ثم الموحدين ثم بني مرين، وهكذا حتى احتلها الفرنسيون والإسبان مناصفة وهي تحت حكم العلويين، فأبقى الاحتلال على منصب السلطان وأبقى له أمواله وضياعه، ولكن بلا أي سلطة أو معنى، وذلك ليستفيد منه ويكسبه في صفه، فيحقق المرجو منه وهو تهدئة الثورات وتحجيم المقاومة وإقناع الناس بالخضوع للمحتل الفرنسي.
ولكن سلطان المغرب محمد الخامس كان في صف المقاومة والجهاد ضد الاحتلال، فلقد نشأ في صغره على طلب العلم وسماع الحديث، وهذا الأمر أثر على فكره وتوجهاته عندما تولى المنصب، وأخذ في الاجتماع مع رجال المغرب الداعين للاستقلال، ودعم الحركة الوطنية الإسلامية وأعضائها مثل الحلو والفاسي والطاهري وغيرهم، ووافق على طلباتهم، وزاد من نشاطه وسعيه للاستقلال بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1358هـ، وأخذ وعودًا من الفرنسيين بالاستقلال بعد الحرب، وقام بجولات خارجية لحشد التأييد العالمي لطلب الاستقلال، وكان المقيم العام الفرنسي بالمغرب الجنرال “جوان” رجلاً قاسيًا صلبًا شديد العداوة للإسلام والمسلمين، يحابي الفرنسيين المستوطنين بالمغرب بمنتهى القوة، فطلب من الملك محمد الخامس أن يرد أعضاء ديوان الملك، ويحل حزب الاستقلال، ويطرد بعض كبار الموظفين، وأن يتعاون بصورة أكبر مع الاحتلال الفرنسي، وأنذره في حالة الرفض بأنه سوف يخلع من منصبه وينفى خارج البلاد.
لم يخضع الملك محمد الخامس لهذه التهديدات، وأصر على موقفه الداعم للاستقلال والمقاومة، فقامت القوات الفرنسية المسلحة باحتلال المدن الرئيسية، وحاصرت قصر الملك بالدبابات في 29 جمادى الأولى 1371هـ ـ 24 فبراير 1952م، وتحت ضغط السلاح اضطر محمد الخامس لأن يوافق على طلبات المحتل، وهذا الأمر يتطابق تمامًا مع ما فعله الإنجليز في مصر عندما حاصروا قصر الملك فاروق سنة 1361هـ ـ 1942م، لإرغامه على إعادة حكومة النحاس الموالية للإنجليز بعد أن أقالها الملك أثناء الحرب العالمية الثانية.