موقف القائد الناجم من حصار الفرنسيين للسلطان إدريس كرم

أثر استيلاء فرنسا على الموارد المالية للمغرب
يقول “فريدريك وايس جيربر” في كتابه “على عتبة المغرب الحديث” ترجمة عبد الرحيم جزل: “لقد جف المورد الذي كانت تأتي منه المساهمات الطوعية في الجهاد منذ وقت طويل، ومداخيل بيت المال استنفدتها كلها مصلحة القروض، فما عاد المخزن يؤمن لنفسه البقاء إلا بقهر القبائل الخاضعة له بصورة مؤقتة، وإرهاقها بالضرائب التي بالغ فيها الوزير المدني الكلاوي بمطامعه الشخصية التي دفعت القبائل إلى الخروج على المخزن” ص:185.
وفي هذا الإطار بعث “كايار” قنصل فرنسا بفاس إلى وزير خارجيته من فاس بتاريخ 7 يناير 1911، برسالة يقول فيها: “وصلت إلى فاس في الثامن من الشهر الجاري، وقد طلب مني مولاي حفيظ الحضور إلى قصره على الفور، فذهبت عنده في اليوم التالي، حيث قدمت له رسالة من رئيس الجمهورية.
فاستفهمني عن مهمة المقري بباريس التي بدأت تثير قلقه، مؤكدا لي على أنه مصمم على مواصلة سياسة التعاون التي سبق لنا أن أعلناها معه، متسائلا إن كنا مازلنا كما يعتقد مستمرين في دعمه كما وعدنا بذلك في شهر أكتوبر عندما شرعنا في تنظيم الجيش الشريف بموافقته، حيث أبان ذلك العمل عن تقدم ملموس، لكنه يحتاج بالتأكيد إلى مزيد من الدعم المادي بمواصلة التنظيم الذي لن يتم إلا إذا كان هناك دعم مادي متواصل منا للمخزن دون إخلال.
فأجبته بأني على علم بكل ذلك من خلال رئيس بعثتنا العسكرية، الذي أحاطني بكل التفاصيل بمجرد وصولي، شاكرا له الثقة التي وضعها في بعثتنا لتكوين عسكره، مبينا له أن التكوين فعلا يحتاج إلى قرض، والقرض يحتاج إلى مفاوضات عصيبة بعد إقامة الإدارة المالية” ص:47 رقم:39.
أثر الوجود الفرنسي حول السلطان
لقد كان للوجود الفرنسي حول السلطان أثر كبير في زيادة تنامي العداء للفرنسيين الذين تكاثر عددهم بعدما تم الاتفاق على القرض في مارس 1910، والقبول بحلول البعثة العسكرية لتدريب الجيش، هذا الجيش الذي تم حله، ثم أعيد اختيار بعض عناصره التي قبلت الانخراط في النظام الجديد، وفي ذلك يقول أحد قواد ذلك الجيش، القائد الناجم الذي ألقى القبض على “بوحمارة”، موجها سهام نقده إلى آل الكلاوي، الذين حملهم مسؤولية كل المتاعب التي حلت بالبلاد وبالسلطان، بالرغم من أن الكلاوي هو الذي قام بتنصيبه، وهيأ له القوات المساندة في سنة 1907 لاعتلائه العرش، وكان قد نصحه في بداية توليه وعزمه التوجه إلى فاس، إذا أراد أن يبقى سلطانا للجهاد، أن يوجه وجهه جنوب مراكش، حيث يمكن له الحصول على ما يمكن أن يحارب به الغزاة، إلا أنه رفض النصيحة، وهكذا أصبح بعد أن اعترفت به الدول إثر وصوله إلى فاس مقيدا بما قيد به سلفه، وتحول الكلاوي مثل الشريف الكتاني الذي قتل وهو خارج من فاس، إلى عدو يريد التخلص منه.
يقول هذا الضابط: “استغل المدني الكلاوي بالوسوسة بيننا نحن قواد الأرحى وعلينا عند السلطان، فقد استدعانا نحن قواد الرحى ذات يوم، فتهيأنا كلنا بالجند والخيل والسلاح على العادة، فأمرنا بأن نحشر كلنا في المشور ثم سد علينا الباب، فأمرنا أن نخلع الكسوة العسكرية القديمة التي علينا، وأن ندفع كل ما عندنا من الخيل والبغال والسلاح والمتاع المخزني، وحوسبنا على النقير والقطمير عندما تم تجريدنا، فقدمنا أيضا الطلب بما لا نزال نطالب به من المؤن التي لم نأخذها في السنوات الماضية، فلما اجتمع حساب كل هذا وهذا، ورأى المدني أن ما لنا على الحكومة أكثر وأكثر، أغضى وانكف على رغم أنفه.
ثم ابتدأ في التنظيم الجديد، فأصر على أن الجند يعرض على الطبيب واحدا واحدا، ومن لم يرض بذلك من أصحاب الحمايات ذهب إلى حال سبيله، حتى لم يبق إلا من لا همة له، ولا يقصد إلا إزجاء الوقت.
قال: فبقيت كذلك قائدا على جند منظم من هؤلاء الذين رضوا بهذه الجندية، فلا يركب من قوادهم إلا أنا وخليفتي وقواد المئات (الفسيانات) -ومما يجب ذكره- كنا في حرب مع أصحاب مولاي الزين، فوجدت عسكريا يسلب مجروحا، فعاتبته وقلت له: إنك خالفت الضابط، أفلم تنهوا عن السلب؟؛ فقال: إن الكلام اليوم للرئيس النصراني، وليس لكم؛ فأمرت به إلى الجلد على جوابه لي…، فعلت ذلك كله أمام الرئيس النصراني، وقد نويت إن تعرض لي أن أفتك به، ثم أفر إلى شراردة، ولكنه لم ينبس ببنت شفة، وإنما صار ينظر فقط” المعسول/ ج:20 ص:81.
(قال القائد الناجم) صرت أتأفف من الجندية بعد الهوان الذي صرنا فيه، وأطلب من السلطان إقالتي لعدم قدرتي على القيام بالمناورات العسكرية مع الجند الجديد، فيجيبني بأن المقصود منك أن تكون بركة هذا الجيش، فقد أعفيتك من كل مناورة فلم أزل أكرر عليه ذلك إلى أن أراد تعييني باشا على مكناس، فاجتمع الأعيان الذين جاؤوا عن قياد قبائل الجيش الحوزية، فصاروا يلومونني على أنني قبلت أن أتوظف في مكناس، مع أن قبائلهم أولى بي من غيرهم، ففاوضت إدريس منو، واتفقنا على تقديم طلب للسلطان بتعييني وإياه في مراكش؛ قال السلطان أثناء اللقاء معه: أوليس هذه القبائل عند الكلاوي؟؛ فقلت: بلى؛ فقال: وهل تقدر أنت على مقاومة الكلاوي؟؛ فقلت له: إنفخ في الحبل يعد ثعبانا؛ فأنعم على طلبي في الحين، وعين إدريس منو باشا لمراكش، فسعينا حينها إلى تعيين عدد من القياد هناك، وبذلك تحقق للسلطان إبعاد الكلاوية، بعدما صح عنده أنهم لا يسعون إلا في مصالح فرنسا، وفي إفساد قوة الحكومة، وهو السبب في ثورة القبائل، وقد أذاع في الناس أن الناجم من قواد النصارى، لأنه ما تولى إلا بقوتهم بعد دخولهم فاس، وبذلك ظهر من يحاربنا، ويطالب بالجهاد ضدنا في دمنات، ومعهم الحنصالي المشهور، وكل قبائل الشلوح، ودام ذلك مدة ستة أشهر.
وقد ذهب الحاج التامي إلى فاس لاسترداد منصبه، وقدم للسلطان خنشات من اللويز، فنبذ السلطان ذلك نبذا أمام الناس وطرده، ثم سافر إلى طنجة عند المهدي المنبهي، فقام معه حتى مكن ما بينه وبين الفرنسيس، فكان مما قال لهم المنبهي إذ ذاك: “إن القائد الناجم لا يمكن أن يسلس القيادة لغير المسلمين، لكن هؤلاء الكلاويين تجد فرنسا منهم ما تريد، فهم الذين ينبغي أن تعتمد عليهم في الجنوب”؛ فصار الحاج التامي لا يعتمد إلا على الفرنسيس، وهم كذلك، ثم أتى مراكش وقد ضعف أمر السلطان، وعلا عليه رأي الفرنسيس، فقلب السلطان رأيه، وأعطى الكلمة للكلاويين بمراكش بالضغط من الفرنسيين، فأراد هؤلاء أن يقرأوا في مراكش الظهير بذلك -قال- ولكننا نحن وقد عرفنا أن ما كتبه السلطان إنما كتبه تحت الضغط نقف في وجه قراءته، ولم تكن الظهائر تقرأ إلا يوم الجمعة، بعد الصلاة في المساجد الكبرى، كابن يوسف، وباب دكالة، والكتبية، والمواسين، وبريمة؛ فقسمنا المساجد بالحراسة لئلا يقرأ فيها أي ظهير، وبقي الأمر كذلك مدة إلى أن ظهر أمر الهبة” المعسول/ ج:20 ص:87.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *